ایکنا

IQNA

"إکنا" تسلط الضوء؛

ما هي أبرز التحدیات التي تواجه نمط الحیاة الدینیة؟ + فيديو

16:26 - December 05, 2021
رمز الخبر: 3483649
طهران ـ إکنا: أكد الشخصيات الدينية والأكاديمية المشاركة في ندوة "تحديات نمط الحياة الإسلامية في العالم الحديث" أن المجتمعات الإسلامیة تعاصر قیماً یخالف البعض منها الفقه والوحي والنصّ القرآني وعلی الرغم من إهتمام الدین الإسلامي بکیان الأسرة وصیانتها إذ أن بعض الإشکالیات إخترقت الأسرة نفسها.

ما هی أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟

ونظمت وکالة "إکنا" للأنباء القرآنية الدولية بالتعاون مع رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامیة  في إیران والمستشاریة الثقافیة الإیرانیة لدی تونس ندوة "تحدیات نمط الحیاة الإسلامیة في العالم الحديث" عبر تطبيق "إسکایب".

وحاضر في هذه الندوة الافتراضية، الباحث والكاتب الايراني، والمدیر العام لدائرة التعاون العلمي والأکادیمي التابعة لرابطة الثقافة والعلاقات الإسلامیة في إیران "الدكتور علی أکبر ضیائي" حول القضایا المعاصرة والتطورات الفلسفیة لمفهوم حقوق الإنسان وحقوق الأسرة وکیفیة تطبیق القیم الإسلامیة وفقاً للفقه الإسلامي ومقتضيات العصر الحديث.

وقال إن الدیانات الإبراهیمیة کانت محور المجتمعات وأنماط الحیاة قبل القرون الوسطی وإن الناس والمجتمعات آنذاك کانت تتمثل لأوامر الکتب المقدسة وتعیش وفق تعالیمها.
ما هي أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟

وأردف مشیراً إلی الانسانوية قائلاً: إنها قد جعلت من الإنسان محوراً وهمشت الوحي والکتب السماویة والنصوص الدینیة وجعلت الإنسان محوراً لکل شئ.

وأکد أننا نظراً لما جاء نواجه تحدیات رئیسیة في الحیاة الدینیة حیث نواجه کـ أسر إسلامیة تعیش في مجتمعات مسلمة في عالمنا المعاصر قیماً جدیدةً وحدیثةً.

المزيد من التفاصيل بالفيديو المرفق...

وتحدث في الندوة، رجل الدین والأکادیمي ورئیس معهد "الذریة النبویة" للبحوث في قم المقدسة آیة الله "السيد منذر الحکیم" قائلاً: إن أهم تحدي نواجهه نحن کـ مسلمین في حیاتنا المعاصرة هو تناسینا لوجود البارئ عز وجل.
ما هي أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟

وأشار إلی الآیة "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" قائلاً: إن الإنسان بإعتقاده بالله یجد نفسه وبفقدان العقیدة یفقد نفسه.

المزيد من التفاصيل بالفيديو المرفق..

وتحدث في الندوة، الخبیر التونسي في الدراسات الاسلامية "الدكتور بدر المداني" قائلاً: إن الأسرة في الإسلام هي أساس المجتمع وحاضنة الصالحین والأولیاء وإن الإسلام یهدف من خلال إنشاءها إلی تحقیق أهداف عظیمة والتأثیر علی الأمة.

 فيما يلي النص الكامل لكلمة الدكتور بدر المداني في ندوة "تحدّيات نمط الحياة الإسلاميّة في العالم الحديث":
 
"الحمد لله ربّ العالمين، جعل الأسرة هي الركن الأساسي في بناء كلّ مجتمع أو أُمة، بل إنَّ القرآن الكريم قد أخبرنا بأن الإنسانية كلّها قد أوجدها سبحانه بقدرته من أسرة واحدة؛ قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " النساء: 1.

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويُميت وهو على كلّ شيء قدير، أقام الأسرة على المودّة والرحمة، فقال تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "الروم: 21.

 وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيَّن أن الأسرة أمانة ومسؤولية يحاسب عليها العبد يوم القيامة، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"؛ متفق عليه.

 فاللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
 
تحيّة محبّة وودّ إلى المنظّمين والمشاركين من تونس الزيتونة تونس الاخاء وتونس المعرفة والعلم والتنوير.

وسنحاول في هذه المداخلة تناول محورين – الثاني والثالث-من محاور الندوة:
 
-1-خصائص الحياة الأسريّة والاجتماعيّة في القرآن والسنّة والآيات والروايات الواردة:
 
أ- الحياة الأسرية:

بداية نعرّف بالأسرة فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: الأُسْرة: الدِّرع الحصينة. وهي كلمة تنحدر من الجذر اللغوي «أسر»، ويدلّ على الإمساك والقيد، وأسره يأسره أسرا وإسارة: شده بالإسار، والإسار ما شد به وهو القيد، ومنه الأسير، وفي القرآن الكريم: "نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ"الإنسان:28، أي شددنا خلقهم: وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم، وتطلق الأسرة في الاصطلاح على رابطة الزواج التي يصحبها ذريّة.

وتتمثّل أهداف تكوين الأسرة في أنّها أساس المجتمع، وهي المحضن الذي يتخرّج فيه العظماء والمستقيمون، ولذلك يهدف الإسلام من تكوين الأسرة إلى تحقيق أهداف كبرى تشمل كل مناحي المجتمع الإسلامي، ولها الأثر العميق في حياة المسلمين وكِيان الأمة المسلمة. ويمكن إجمال هذه الأهداف أوّلا في الهدف الاجتماعي:

والذي يتحقّق به تماسُك المجتمع وترابطه، وتوثيق عُرى الأُخوَّة بين أفراده وجماعاته وشعوبه، بالمصاهرة والنَّسَب؛ قال تعالى: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا " الفرقان: 54 ثمّ الهدف الخلقي فقد اعتبر الإسلام بناء الأسرة وسيلة فعَّالة لحماية أفرادها شيبًا وشبابًا، ذكورًا وإناثًا من الفساد، ووقاية المجتمع من الفوضى، ومِن ثَم فإن تحقيق هذا الهدف يكون بالإقبال على بناء الأسرة؛ لأن عدم ذلك يحصل به ضرر على النفس باحتمال الانحراف عن طريق الفضيلة والطهر، كما يؤدي إلى ضرر المجتمع بانتشار الفاحشة وذيوع المنكرات، وتَفَشِّي الأمراض الخبيثة.والثالث والأخير الهدف الروحي فبناء الأسرة خير وسيلة لتهذيب النفوس وتنمية الفضائل التي تؤدي إلى قيام الحياة على التعاطف والتراحم والإيثار؛ حيث يتعوَّد أفرادها على تحمُّل المسؤوليات، والتعاون في أداء الواجبات،  كما أن الأسرة تحقق حفظ النوع الإنساني بإنجاب النسل، ثمّ تتحمل المسؤولية بتربيتهم وتوجيههم، بما يُسهم في بناء شخصيتهم السوية؛ لأن الإسلام جعل الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يقوم على رعاية الطفل، واعتبر كل انحراف يصيب الناشئة مصدره الأول الأبوان؛ لأنه يولد صافي السريرة، سليم الفطرة؛ قال عليه الصلاة والسلام: "ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تحسون فيها من جدعاء؟!".

 فالأسرة هي البيئة الأولى التي ينشأ فيها الأطفال الصالحون، كما أنها المجال الفريد لغرس عواطف حب الله ورسوله، وحب المسلمين، الذي تزول معه كل عوامل الشحناء والصراعات المختلفة، فيخرجون إلى الحياة رجالًا عاملين نافعين، يكونون لَبِناتٍ صالحة للمجتمع.

وبالعودة إلى كتاب الله وسنّة الحبيب المصطفى فنؤكّد على أنه لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل لكن نجد مصطلحات قرآنية قد تقترب من المدلول المعاصر نحو مصطلح "الأهل والآل" التي تدلّ على جماعة الرجل وعشيرته.

ومن ثمّ؛ فلا يمكن الاستدلال على اهتمام القرآن بالأسرة أو عدم اهتمامه بتكرر «المصطلح» لفظا، وإنما بمدى العناية التشريعية التي أولاها القرآن للأسرة؛ إذ نجد في القرآن تفصيلات تشريعية وقيمية وإرشادية لمختلف مكونات الأسرة، واهتماما بتنظيم علاقاتها وفق منظور تشريعي مقاصدي؛ ببيان حقوق أفرادها وواجباتهم والقيم التي يجب التحلي بها، والمقاصد التي ينبغي التأطر بها، فالآيات القرآنية تروم بيان المنظومة الأخلاقية التي تربط بين أفرادها.

لم يرد مصطلح «الأسرة» في القرآن الكريم، كما سبق بيانه، لكنه كان اصطلاحا معروفا عند العرب يدل على جماعة الرجل، وتطلق العرب كلمة الأسرة للدلالة على قدر من التجمّع البشري، وقد وردت الأسرة في نصّ طويل لابن حجر العسقلاني في تعديد مراتب الأنساب، وذكر جملة من التقسيمات من بينها الأسرة باعتبارها شكلا من أشكال التجمع الإنساني.

إذا تأملنا القرآن الكريم فإننا نجده لا يفرض نمطا معينا للأسرة وإنما يحرص على بيان الحدود والقيم التي تؤطر العلاقات الناتجة عن الزواج المشروع، الأمر الذي يجعل العلاقات مركبة ومتشابكة، تتداخل فيها العلاقة الزوجية بعلاقة المصاهرة والنسب، ولا أدل على ذلك من تشريعات الميراث المضبوطة والمتشعبة، والانضباط بهذه الحدود الشرعية والضوابط الأخلاقية يحفظ هذا التشابك الأسري وينمى هذا التآصر العائلي بين مختلف محددات الأسرة الكبيرة.

فمنذ أن سطعَت شمس الإسلام على دنيا الحياة، وجهَت التعاليمُ الإسلامية الأسرةَ إلى ما فيه سعادتها دنيا وأخرى، وابتدأَت بإصلاح حال المرأة؛ فأعطَتْها حقوقها التي أهدرَتها الجاهلية، وأنقذها من كونها كالسلعة تُباع وتشترى، كما جعل الإسلام على الأب والأمِّ مسؤولية عظيمة في تربية أبنائهم؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل في أهله راعٍ وهو مَسؤول عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته".

وحرص الإسلام على غَرس مبدأ التقدير والاحترام للآباء والأمَّهات، والقيام برعايتهم، وطاعة أمرهم إلى الممات؛ قال سبحانه وتعالى: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا "الإسراء: 23 وجاء النَّهي عن قطيعة الرَّحم والتشديد في ذلك: " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم "محمد: 22.

 وحثَّ على الزواج طلبًا للعفَّة: "يا مَعشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ، فليتزوَّج، ومَن لم يستطع، فعليه بالصَّوم؛ فإنه له وجاء" فنظام الأسرة في الإسلام يختلف عن َ نظام الأسرة في النظام الغربي القائم على التحرُّر الكامل والمطلق من كل الالتزامات وقد نخرته المشاكل والآفات فقد نشرت مجلة التايمز بتاريخ 6/ 2/ 1995م إحصائيَّةً تفصيلية مروعة عن انتشار الجريمة في أمريكا، ومنها أنه في كل 21 دقيقة تقَع جريمة قتل؛ منها 10 % يقع من داخل الأسرة ومما يلاحظ عزوف عن الزواج في أمريكا وصلَت نسبته إلى 85 %، وازدادت نسبة الطلاق لأكثر من 50 %.كما أنّ 41 % في بريطانيا من الأولاد يولدون خارج الزواج.
ما هي أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟
وارتفع العنف ضد الأطفال؛ حيث إنَّ 27 % من الذين يُقتلون أطفال تحت سن العاشرة.وازدادت نِسبة الإدمان على المخدرات حتى في العمر تحت 18سنة، فـ47 % تعاطوا الكحول في الشهر الأخير من الثانوية العامة سنة 2003 في أمريكا.

 وهناك اتجاه متصاعد في كلِّ الدول الكبرى لعيش كبار السن وحدهم؛ فمثلًا 70 % من النساء في بريطانيا فوق سن الـ85 عامًا يعشن وحدهن، وهو معدَّل أعلى من نظيره عند الرجال.واختلَّ شكل وبناء الأسرة؛ حيث زادت نسب الأسر بدون أولاد، كما زادت صور العلاقات المثلية أو المختلطة دون ارتباط بين الأفراد.

 ومن خصائص الحياة الاجتماعية الإسلامية ما يجعلها في الإسلام مترابطة لا انفصال فيها، ولا تضارُب بين جوانبها؛ بل هي بكلّ جوانبها متداخلة، ومتكاملة، ومتناسقة مع الفِطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا التناسق والانسجام مع الفطرة يُكسِب الحياة إشراقًا ونورًا، وبهجةً لا تتأتَّى إلا في هذا المنهج العظيم، والصِّبْغَةِ الكريمة، والسبيل القويم الذي أنزله الخالق الرحيم؛ ولذا فإن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام تتمثل في:

أولاً: أنَّه نِظامٌ رباني: بكليّاته وجزئياته، قد شرع الله فيه للإنسان كلَّ جوانب الخير، وهو أعلم وأحكم، فالذي أحكمَ الخلق وأتمَّه، أنزل التشريع وأتمَّه "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا "المائدة: 3

وفي ربانيّة النظام الاجتماعيّ في الإسلام تتحقق الطُّمأنينة من جوانبها المتعددة، الطمأنينة المنبعثة منَ الثقة بالله، والاستغناءِ به عن كل ما سواه، فما أعظَمَ سُكونَ القلوب إلى الله! وما أكثَرَ وَحْشَتَها في البُعد عنه! الطُّمأنينة المنبعثة منَ الحق، وأنها على الحق المبين، بلا تَرَدُّد ولا شكٍّ ولا حَيْرة، والحقُّ في النظام الاجتماعي في الإسلام، وفي التشريع كلِّه لا يُلابِسُه باطلٌ، وليس له ضحايا، وليس فيه تفريط بالحق بأي جُزْئيَّة من جُزْئيَّاته: "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" فصلت: 42.

ثانيًا: أنَّه نظامٌ تَعَبُّدِيٌّ: تتمّ فيه الأعمال الصالحة استجابةً لأمر الله، وتكون فيه المبادرة إلى الإحسان لوجه الله تعالى: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا" الإنسان: 9 ولا تكون مبادَلَةُ المنافعِ المادّيَّة العاجلة هي الدافعَ؛ بل هي من فضل الله الذي يمتزج مع العبادة بمعناها الشامل، إن الإسلام لا يَعُدُّ العبادة فيه مجرَّدَ إقامة الشعائر؛ إنما الحياة كلُّها خاضعة لشريعة الله: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" الأنعام: 162 - 163.

ثالثًا: أنه نظام متوازن: تَتَوازَنُ فيه حقوقُ المرأة وحقوق الرجل، حقوق الفرد وحقوق الجماعة، وحقوق المجتمعات فيما بينها «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات: 13، تتوازن فيه متطلَّباتُ الإنسانِ العاطفيَّةُ والعقليَّةُ، ومُيُولُهُ ورغباتُه الجسديةُ والروحيةُ، فلا يطْغَى جانبٌ على حِساب جانب.

رابعًا: أنه نظام متكامل: يقوم على التَّكامُل بين الأفراد، الذَّكَر والأنثى كلٌّ له رسالة محدَّدة يُكمِّل بعضهم بعضًا، والناس بمجموعهم تقوم حياتهم على التكامل لا على الصراع، تقوم على أن يُحِبَّ الفرد المسلمُ لأخيه ما يحب لنفسه، فهم كالبُنيان، وكالجسد الواحد يُكمِّل بَعْضُهم بعضًا، كما قال - جل وعلا -: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" الحجرات: 10، وفَضْل الأخوة والتفصيل فيه مبسوط في كتاب "فقه الأُخُوَّة في الإسلام" للدكتور علي عبدالحليم محمود، والأُخُوَّة في الله هي اللَّبِنَة الأولى في بناء المجتمع؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأسيس المجتمع المسلم في المدينة المنورة، وهي الطريق الواضح لبناء المجتمع المسلم في كل وقْتٍ وحين، الأُخُوَّة الإيمانيةُ التي لا يعرف ذاتها إلا مَن عايشها، ولا يعرف أبعادَها إلا مَن سابَقَ فيها، كيف لا وهي تقوم على الحُبِّ في الله، بِجَمالِه وعاطفته وبَهائِهِ، مع سُمُوِّ القصد فيه؟! الحبُّ القائم على الإيمان بالله ما أَجْمَلَهُ وما أصفاه!

خامسًا: أنه نظام شامل ميسَّر: شامل لمصالح المسلم؛ مِن خَلْقه جنينًا في بطن أُمِّه إلى مماته وما بعد مماته، يحفظ الحق له، ويرتب المصالح المتعددة بتناسُق وتضافُر.

ومن الخصائص ننتقل إلى معرفة الأهداف التي يقام عليها النظام الاجتماعي مع التأكيد على ما لها من أهميَّة بالغة في التطبيق، ولها أهميَّة بالغة في الوقاية، وفي المبادرة، وفي الرعاية لكل المصالح التي تهدُف إليها، الوقاية من كل المخاطر التي قد يتعرض لها المجتمَع، والمبادرة إلى المقاصد التي عُنِيَ بها الإسلام، والرعاية لكل جزئيات المصالح التي قَصَدَها وهي كما يلي:

أولاً: تحقيق السكن: النفسيّ والحسيّ والجنسيّ والعاطفيّ، السَّكَن بكلِّ معانيه التي امتَنَّ الله بها "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" الروم: 21.

ثانيًا: تحقيق المودة: التي تنمِّي في النفس مكارم الأخلاق، المودة الَّتي تهيئ المحْضِنَ السليم لتربية الأجيال، المودَّة التي تصنع الأبطال، فمن الأُسَر المؤمنة والنساء الصالحات تخرَّج الأفذاذ في حضارة الإسلام الممتدَّة عبر الأزمان، وليس مثلُ الزواج والبناء في تحقيق هذه المودة بين الزوجين وبين العوائل وبين القبائل "وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الروم: 21، كما أن المودة بين جميع أفراد المجتمع المسلم هدفٌ كريم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، كمَثَلِ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَد".

ثالثًا: تحقيق الرحمة: التي تتعطَّش لها النفس، الرحمة التي كتبها الله على نفسه سبحانه، الرحمة التي جَمَّلَ بها الحياةَ كلها، حياة الإنسان وحياة الحيوان، الرحمة التي اشتق منها الرَّحِم، الذي يتواصل به البشر، الرحمة التي لا غِنَى لِلفَرْدِ عنها من أُمِّه الحنون في طُفولَتِه وصِغَرِه، إلى الرحمة له في شَيْخُوخَتِه وكِبَرِه مِن كلِّ مَن حَوْلَه من أبنائِه وبناتِه وأحْفَادِه، ومَن فَقَدَ الرحمةَ فَقَدْ حُرِم شيئًا لا يُعوِّض عنه غيرُه.
ما هي أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟
وتحقيق الرحمة بين المسلمين سبيلٌ إلى رحمةِ الله الكبرى لهم يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الراحمون يَرْحَمُهُمُ الرحمنُ"، الرحمة التي تكون بين الزوجين، وتتفرَّع بعد ذلك في أبنائهم وشؤون حياتهم، فَمَشاعِرُ الزَّواج تُورِث الرحمةَ والحبَّ، وسُمُوَّ النفس، وحياةَ الضمير والقلب، فهي مشاعر فيَّاضة في العطاء والنماء.

رابعًا: تحقيق الحق: الذي لا معنى للحياةِ بِدُونِه، حقُّ الله - سبحانه وتعالى - وحدَهُ لا شريك له، وحقّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ومحبَّته وما جاء به، وحق الوالدين ووصية الله فيهما، وحقّ الزوجة، وحقّ الزوج، وحقّ الأبناء، وحقّ ذوي القربى، وحقّ الجار، وحقّ المسكين، وحقّ ابْنِ السبيل، وحقّ الصديق، وحقّ الأخوة في الله لكل المؤمن، وحقّ الضيف، وحقّ كل ذي حقّ، والتَّواصي على الحقّ والصبر عليه "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" العصر: 1 - 3، وقد شَمِل النظام الاجتماعيّ في الإسلام جميعَ جوانِبِ الحَقّ، وحثَّ على جميع الوسائل الموصِّلة إليه.

خامسًا: تحقيق التكافل الاجتماعي: فمن خلال اللَّبِنات الأُسْرِيَّة، ومن خلال العلاقات القوِيَّة يتكوَّن المجتمَع، وأقوى رابط يَرْبِط هذه اللَّبِنات هو التَّكافُل والتعاون على البِرِّ كلِّه، وعلى الخير كلِّه، وعلى تحقيق غاية الخلق، وهي تقوى الله وطاعته، فالتكافل الاجتماعي هدف في النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام، به تَقْوَى العلاقات وتنمو الحياة،
قوله -صلى الله عليه وسلم "مَن نَفَّس عن مؤمن كُرْبَةً نَفَّس اللهُ عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يومِ القيامة، واللَّه في عَوْنِ العبد ما دام العبد في عَوْن أخيه".

سادسًا: التعارُف: وبعد تحقيق التكافل بين أعضاء المجتمع المسلم، يهدُف النظام الاجتماعيّ في الإسلام إلى التعارُف بين الشعوب والقبائل، ومدِّ جُسور التواصُل النافع، والتعاون على البِرِّ حتى مع مَن يخالف في الدِّين إذا رَضِيَ بذلك، ولم يَكِدْ للإسلام والمسلمين: قال - جل وعلا -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" الحجرات: 13، فليستْ هذه الشعوبُ والقبائل لتتفاخر، وتتناكر وتتحارب؛ وإنَّما لتتعارف وتتآلف، والكرامة لها عند الله بتقواها؛ لا فضل لأبيضَ على أحمرَ، ولا لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لغَنِيٍّ على فقيرٍ.

سابعًا: حفظ الضروريات الخمس:

يهدف النظام الاجتماعي في الإسلام إلى حفظ الضرورات التي تقوم عليها الحياة، وهي خمس:
1-الدِّين، وبه تستقيم علاقة الإنسان مع ربه، وتتحقق به الغاية من وجوده.
2-العقل، وهو مناط التكليف، ومحل التميز والتكريم.  
3-النفس، وبها استمرار الحياة للغاية العظيمة التي أرادها الله سبحانه.  
4-العِرض والنَّسل، وبه تكاثُر البشر، وعفَّة وطهارة الأصل.  
5-المال، وبه قوام الحياة، والعون على أداء الواجبات والطاعات.

والنّظام الاجتماعيُّ إلى جانب النظام الاقتصاديّ والسياسيّ في الإسلام، قدِ اعتبر المحافظة على هذه الضَّرُورات وصِيانتها، وتحريمَ كل ما يؤثِّر عليها مقصدًا من مقاصد التشريع، وهدفًا من أهدافه. وفي الزواج وبناء الأسرة على المنهج الإسلامي الكريم، وعلى الميثاق الغليظ -: حفظٌ وتحقيق للمصالح الكبرى في الدين، والعقل، والنفس والنسل، والعِرض، والمال وذلك ما أثبته رسول الله في قوله: "يا معشَرَ الشبابِ مَنِ استطاع منكم الباءة فلْيتزوجْ؛ فإنه أَغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفرْج"، وفي ذلك حفظٌ للدين من مزالق الشهوات، وحفظٌ للنفس والعقل من الشبهات، وفي الزواج وقاية وعلاج؛ فقد نظم العلاقة بين الرجل والمرأة ولم يمنعها، ولم يطلقها فيترتب على إطلاقها مفاسدُ وفوضى في نواحي الحياة، وهو خير عاصمٍ لِلشباب في كل وقت، وفي وقتنا المعاصر من المآسي التي تعاني منها المجتمعات وهو خَيْرُ دافع إلى حياة الاستقرار والبناء، ومن مقاصد الزواج وغاياته النسلُ والذرِّية الصالحة "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا" الفرقان: 74.

-2- ـ نمط الحياة الإسلاميّة؛ طريقة التخلّص من الأزمات والانحرافات الاجتماعيّة :
 
لم يعدْ خافيًا على أحدٍ مدى ما تُعانيه المجتمعاتُ الإسلاميَّة في الوقت الراهن مِن إشكاليات اجتماعيَّة خطيرة، جَعَلَتْها في حَرَجٍ أمام الحضارة الغربية، التي حقَّقَتْ تقدُّمًا علميًّا واقتصاديًّا كبيرًا، في حين كانتْ - وما زالت - تعاني هذه الحضارة مِن خلل اجتماعي  غير أن ثمة فارقًا في الأسباب وراء ما يَحْدُث في الغرب، وما يحدث في مجتمعاتنا الإسلامية، يَتَمَثَّل في أنَّ هذا الحادث في الغرب يعود إلى خَلَل في المنظومة القيميَّة ذاتها؛ أي: إن ذلك نتيجة طبيعية ومنطقية لما يراه الغرب ويعتقده، بل ويمارسه ويشرعه، أما في مجتمعاتنا الإسلامية، فإنَّ ما يحدُث يعود إلى عواملَ خارجيةٍ، هي بالأساس نتيجة تأثيرات غريبة يُمكن مواجهتُها، والتخفيف من حِدَّتِها وانعكاساتها بالجهد والعمل؛ من أجل ابتعاث وتفعيل قِيَمنا ومبادئنا، والدعوة للتمسُّك بالإسلام.

  فالإسلامُ -الذي هو مصدر ثقافة الناس، ومعيار سلوكهم -أَوْلَى عنايةً كبيرةً بالأُسرة التي تُشَكِّل اللَّبِنة الأولى في بناء المجتمعات، والتي يبدأ الخَلَل المجتمعي منها؛ حيث اعتبر الإسلام أنَّ رابطة الأسرة رابطة مقدَّسة، وأنَّ كلَّ محاولة للإخلال بها أو تقويضها هي جريمة، بل هي مجموعة من الجرائم؛ إذ يَتَرَتَّب على ذلك تشريد الأطفال، وإيقاد نار العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع.

 لهذا فقد اهتمَّ الإسلامُ بالأسرة اهتمامًا عظيمًا، ووضع لها نظامًا حكيمًا يرتكز على دعائمَ وأسسٍ قوية، فلم يترك الإسلامُ شأنًا من شؤونها إلاّ ودعمه بقسطٍ كبيرٍ منَ الإرشادات والتوجيهات، التي لو أخذت الأمة بها لسارتْ في طريقها راشدة، كما كان يسير سلفُها الصالح، والذي كان سببًا لأن تحقق الأمةُ خلال مراحل تاريخها الاستقرارَ والقدرة الدائمة على إعادة ابتعاث حضارتها، وقدرتها على صدِّ العُدوان؛ إذ كانت بِنيتها الاجتماعيَّة سليمةً، لم تصب بما أصيبتْ به اليوم، ومع ذلك فإنَّ الأملَ معقودٌ دائمًا على هذه الأمة، شرط عودتها لدينها وإصرارها على التمسُّك بقيمه ومبادئه، حتى يمكنُها استعادة عافيتها، واسترجاع دورها الحضاري المفقود.

 وقد وصلتْ عنايةُ الإسلام بهذا المكون الرئيس للمجتمع "الأسرة" إلى درجة كبيرة، حتى إن هذه العناية امتدتْ إلى ما قبل تأسيسها في مُحَاوَلة إلى انتقاء عناصر بنائها بما يحقِّق التلاؤُم، والانسجام، ويُقَلِّل من دوافع الفشل لبنيانها، بل إنَّ الإسلامَ حَثَّ أتباعه على المساهَمة في تكوين هذه الأسرة عبر وسيلته المشروعة وهي الزواج، الذي اعتبره الإسلامُ إحدى سُنَن الله في الخلق لما يحققه من مقاصد في الحياة الإنسانية؛ إذ يقول الله - تبارك وتعالى " وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "الذاريات: 49]، كما أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم دَفَعَ الشبابَ دفعًا إلى تحقيق هذه السنة، موضِّحًا فوائد ذلك ومنافعه فقال: "يا معشر الشباب، مَنِ استطاع منكم الباءَة فليتزوج، فإنَّه أغَضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصَّوْمِ، فإنه له وجاء"؛ متفق عليه، وقد كان كل ذلك وغيره من النصوص دافعًا قويًّا إلى إجلال الزواج، واعتباره إحدى المسائل المهمة التي يجب على المسلم أن يَتَفَكَّرَ فيهَا، ويَتَدَبَّرَ أمرها، ويسعى إلى تحقيقها.
كما شملتْ دعوة الإسلام للزواج لبناء الأسرة تحديد المعايير والأسس، التي يجب على أساسها اختيار هذا الزوج أو هذه الزوجة، مع الإعلاء من معيار الالتزام والتديُّن الذي بتوفُّرِه تَتَحَقَّق السكينة والاستقرار، وربما بهذا التديُّن يُمكن تجاوُز ما يقع مِن مشكلات وخلافات، والذي بغيابه لا مناص من حياة النكد والاضطراب؛ يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم -: "تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك"؛ متفق عليه.

 ولقد وضع الإسلام  أُسُسًا لطبيعة العلاقة بين الزوجين المؤسسين للأسرة، وحَدَّدَ موقع كلٍّ منهما؛ إدراكًا منه بتلك الطبيعة البشرية للطرفين، التي تعني حتمية وُقُوع الخلاف نتيجة اختلاف الأمزجة، والتفاوُت بين العقول والمشاعر، فالزواج علاقة لا تقوم على الصراع ومحاولات كلِّ طرف لإثبات ذاته؛ لكنها تقوم على الودِّ والحبِّ والحنان؛ لهذا؛ فقد شَدَّدَ القرآنُ الكريم على ضرورة أن يعاشرَ الرجل زوجته بالمعروف، وأن يرفق بها، وأن يحسنَ الإنفاق عليها؛ يقول الله: " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ "البقرة: 228، ويقول الرسولُ الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبة الوداع، "أيها الناس، إنّ لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهنَّ حقًّا".

 ولعلَّ الحكمة مِن هذا تعود بالأساس إلى مُحاولة الإسلام التَّضييق على كلِّ ما من شأنه أن يُفَرِّق شتات الأسرة، ويأتي الأبناء كثمار لهذه العلاقة، وتتويجٍ لها، ولتكتمل بذلك عناصرُ وأركان الأسرة، بل إنَّ الأولاد هم امتداد هذه الأسرة التاريخي والمستقبلي؛ حيث سيعول عليهم فيما بعدُ القيام بمسؤولية تكوين أُسَر أخرى؛ لهذا فإنَّ الإسلامَ يفرض على الأبوين واجب إعدادهم، وأن يبذلا قصارى جهدهما؛ من أجل تقديمهم كعناصر نافعة وصالحة لمجتمعهم المسلم.

 في المقابل حَضَّ الإسلامُ الأبناءَ على طاعة الوالدين والبر بهما؛ " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا "الإسراء: 23، إنَّ مُحاولة حَصْر النُّصوص والتوجيهات والقصص الإسلامي، التي تُعْنَى بالأسرة المسلمة، وتعمل على بقائها قوية متماسكة ليس أمرًا سهلاً؛ إذ أنَّ اهتمام الإسلام بذلك متشعِّب وعميق، بقدر الدعوة الإسلامية التي حرصتْ أول ما حرصت على إيجاد مجتمعٍ قويٍّ ومتماسك، يبدأ من الأسرة حتى يمكنه مواجهة التحديات التي تفرض عليه في كلِّ زمان ومكان، فالأسرةُ المسلمة بتمسُّكها بقِيَم الإسلام يُمكن أن تحفظَ دينها وعقيدتها، حتى لو كانتْ فريدةً في مجتمع لا علاقة له بالإسلام، والأسرة المسلمة هي الوحيدةُ القادرةُ على أن تصلَ بعناصرها إلى برِّ الأمان، والأسرة المسلمة هي التي يُمكن أن تكونَ النواةَ الأولى لاستعادَةِ قدر هذه الأمة.

والغاية من هذا كلّه تجنّب الانحرافات التي فصّلتها الشريعة وأوجبت فيها العقوبات الأدبية والمادية، وخاصة جرائم الاعتداء على النفس الانسانية وما دونها و الجرائم الأخلاقية ولمّا كانت رسالة الاسلام العظيمة اجتماعية المنشأ ـ فتتعامل مع الفرد والمجتمع ضمن الإطار الأخلاقي المرسوم لها من قبل السماء ـ أصبح تعاملها الشديد مع الجرائم والانحرافات الخلقية أمراً حتمياً؛ لأنّ القاعدة الاخلاقية هي الأصل في ضمان سلامة اجهزة النظام الاجتماعي وتكاملها لبناء المجتمع الانساني السعيد. وهذا الإطار الاخلاقي الذي نادت به الشريعة وتبنّته على امتداد تاريخها الحافل بالوقائع والأحداث، هو الذي حفظ المجتمع الاسلامي من الإنحرافات التي يعيشها المجتمع الغربي وهو في أوج تقدّمه المدني والاقتصادي. وأهمّ الجرائم والانحرافات الأخلاقية التي يواجهها النظام الاجتماعي هي الانحرافات الجنسية كالزنا واللواط والمساحقة، والانحرافات السلوكية كالقذف وشرب الخمر، والانحرافات العقائدية كالارتداد.
ما هي أبرز التحدیات أمام نمط الحیاة الدینیة؟
الأصل في العقوبات الأخلاقية القرآنية لردع المنحرفين هو التشديد والحسم، ولاشكّ أن هذا التشديد في التعامل مع المنحرفين أخلاقياً منسجم مع النظرية الأخلاقية الاسلامية. فلابدّ من أجل بناء مجتمع متكامل نظيف يهتم بحقوق الأسرة وحقوق الأفراد الذين يشكّلون تركيبتها البشرية وحقوق النظام الاجتماعي، من إنزال أقصى العقوبات الجسدية بالذين يحاولون تمزيق ذلك النظام الأسري والاجتماعي عن طريق الانزلاق في الشهوات المحرّمة وخلط الانساب. وبطبيعة الحال، فإن الإسلام لم يغفل حاجة الفرد المتعلّقة بالجنس، بل أشبعها ضمن ضوابط الزواج الشرعية والعرفية، وجعل العقاب صارماً فيما وراء ذلك.

وقد جعل الإسلام تطبيق الحدود آخر الحلول لمعالجة الجريمة والانحراف. فقد أمر الأفراد أولاً بالستر والتوبة وسدّ الحاجات الغريزية بالطرق الشرعية. فإذا استتر المنحرف وتاب إلى الله قبل قيام البيّنة فهو في ستر الله ولا يقام عليه الحدّ: " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" آل عمران : 89"
 
 الخاتمة:

 وخلاصة القول ونحن نروم الإصلاح فتتأكّد الحاجة اليوم إلى المطالبة الجادة من الدول والحكومات بدعم الأسرة كمؤسسة تربوية، لها أثر كبير في توطيد الأمن والاستقرار. ووضع استراتيجيات وسياسات أسرية واضحة يتبناها المجتمع ويلتزم بها. ومطالبة أصحاب القرار في التعليم والخطاب الديني بإقرار مواد وخطب  عن ثقافة الأسرة والمسؤوليات فيها، وقيام الجهات المعنية بعقد برامج تدريبية متخصصة بتوعية الأب بدوره بالتماسك بين أفراد أسرته، وضرورة وضع الخطط في كيفية الاستخدام الأمثل لوسائل الاتصالات الحديثة، والقيام بحملة توعوية شاملة.

وعلى العلماء إضافة إلى جهودهم في مجال الفقه، والحقوق، أن يهتمّوا بمباحث الأخلاق الإسلاميّة، والمباحث العقليّة، والسلوك العمليّ الإسلاميّ بشكلٍ نوعيّ ومكثّف؛ ليكون محصول هذا الجهد أساس التخطيط ومبنىً لتعاليم الأجيال القادمة.
 
4015780
captcha