وتحدثت الباحثة والكاتبة اللبنانية "الأستاذة إيمان شمس الدين" بعنوان "الأوبئة وأسئلة الهوية الإنسانية" في الندوة الخامسة من سلسلة ندوات "جدلیات کورونية" التی أقیمت عصر الجمعة الماضية 15 مايو الجاري تحت عنوان "كورونا: جدليات الهوية الإنسانية" بتنظيم المستشاریة الثقافیة الإیرانیة لدی بیروت إلکترونیاً وذلك بالتعاون مع وكالة الأنباء القرآنية الدولية."، وإلیکم النص الكامل للمحاضرة:
"إن أزمات الطبيعة كالجوائح تدفعنا دوما لقراءة تداعياتها على البشر، ليس فقط التداعيات الاقتصادية مع أهميتها، لكن الأهم التداعيات الأخلاقية والقيمية، التي تهتم بضبط الفرد والمجتمع، ضبطاً ذاتياً تحتاجه المجتمعات كثيرا حينما تقل نسبة تطبيق القانون نتيجة الفوضى المؤقتة التي تحدث نتيجة هلع الناس وخوفهم من الوباء. هذه القراءة النقدية والمراجعة وهو ما قام به بعض فلاسفة الغرب، تكشف الثغرات الأخلاقية وطريقة تعامل المجتمعات والنخب والحكومات مع الوباء، وما هي موقعية الإنسان وقيمته في ظل الجوائح والأوبئة، التي تعكس فساد أو صلاح القاعدة الفلسفية التي بني عليها الفكر، وتكشف عن فاعلية مصادر المعرفة ومدى قدرتها على الإجابة عن الإشكاليات الملحة المعرفية التي أنتجها الوباء.
فالفيلسوف وعالم الاجتماع المعاصر إدغار موران فقال: تبين لنا هذه الأزمة (ويقصد فيروس كورونا) أن العولمة هي الاعتماد المتبادل دون تضامن. لقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب، ويضيف قائلا: يخبرنا الفيروس بقوة أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية من أجل سياسة مضادة للأزمة (NEW DEAL) اجتماعية وبيئية. إن المسار الجديد سيحمي ويعزز الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت من تخفيضات مجنونة في أوروبا لسنوات. سوف يصحح المسار الجديد آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق متحررة من العولمة، من شأنها حماية استقلالات ذاتية أساسية كالاكتفاء الذاتي من الغذاء، الاستقلالية الصحية... وقال نحن في مجتمع حيث تدهورت هياكل التضامن التقليدية. إحدى المشاكل الكبيرة هي استعادة التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين. مع القيود التي نمر بها، سيتم تعزيز التضامن بين الآباء والأطفال الذين لم يعودوا في المدرسة، وبين الجيران.. إمكانياتنا الاستهلاكية سوف يتم ضربها، ويجب علينا الاستفادة من هذا الوضع لإعادة التكفير في النزعة الاستهلاكية، وبعبارة أخرى الإدمان، و" الاستهلاك المخدِّر، وفي تسممنا بالمنتجات دون فائدة حقيقية، ومن تخلصنا من الكم لصالح الكيف... يمكننا أن نستعيد ذواتنا، ونرى احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة.. الحجز يساعدنا على البدء في تطهير طريقة حياتنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق إمكانات "الأنا"، ولكن دائما داخل مختلف " النحن"... علينا أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير المشترك "الأرضي".. فالتضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، إذا لم نتقدم في التضامن، وإذا لم نغير التفكير السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستسوء أكثر.
أما الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه فيعتبر أن أزمة فيروس كورونا جعلتنا في سيرورة يقظة، وقال سنرى في الأسابيع المقبلة إلى أي مدى ستتقلص الفجوة بين الفرد والجماعة أو تصبح أكثر اتساعا. نحن نعيش اختبارا سياسيا حقيقيا واسع النطاق. هل تمكن البعد الفرداني الليبرالي والخاص من السيطرة بشكل كامل في مجتمعاتنا أم لا؟.. في المملكة المتحدة، تبنى بوريس جونسون بشكل علني استراتيجية "الحصانة الجماعية" أو مناعة القطيع "Herd Immunity" من خلال عدم حجز السكان وإعلان أن عددا كبيرا من الأشخاص الضعفاء أو المسنين سيموتون. يتوافق هذا الموقف القائم علي الاستهتار البراغماتي " Cynism pragmatique" مع نوع من التقاليد الإنجليزية. فهو ينطلق من افتراض أن الثمن الذي يجب دفعه، اقتصاديا واجتماعيا، للاحتجاز باهظ للغاية وأن المرض ليس في حد ذاته خطيرا للغاية بالنسبة للعدد الأكبر من السكان، وبالتالي فمن الضروري تحمل "الضرر الجانبي". فأمام التوصيات التي قدمتها الحكومة البريطانية نجد أنفسنا أمام خيار ليبرالي للغاية: بشكل فردي، أنت تفعل ما تريد، حتى إذا تم نصحك بالبقاء في المنزل، لكن بشكل جماعي، لا نأخذ تدابير سلطوية قاهرة. إن الحرية والمسؤولية الفردية هي التي لها الغلبة[1]. وقد تراجع جونسون رئيس الوزراء البريطاني عن هذه السياسة الصحية في مواجهة فيروس كورونا تحت ضغط الرأي العام الناقد، وبعد أن قامت جامعات عريقة في بريطانيا بتقديم دراسات علمية معمقة تنقض مبدأ "مناعة القطيع".
وتأتي أهمية الأخلاق في هذه المنظومة كونها تشكل الضابطة في بعدين هما:
١- البعد الفردي حيث تضبط جوانحيا أعماق الإنسان وتربطها بقيم السماء وأخلاق الله تعالى، هذا الانضباط النفسي هو النواة التي تنطلق منها الضوابط في بعدها الآخر. فالبعد الفردي يقتصر على ساحة الكمال الفردي الإنساني.
فانضباط النفس والذات، هو انطلاق نحو الانضباط الاجتماعي الخارجي.
٢- البعد الاجتماعي: هنا هي ساحة التفاعل الإنساني في السير نحو كل من الكمال والتكامل الإنساني، ومحورية الأخلاق هنا تأتي كضابطة تمنع وقوع الفساد الاجتماعي، وتدفع باتجاه التطور والتنمية البشرية على كافة الأصعدة.
لكن كيف يمكن أن تشكل الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية في ظل وجود الأنا والذات والنفس؟
- الشعور الأخلاقي متصل بالشعور بمعرفة الله:
والاسلام يعني الاستسلام لقانون الله، ولله سبحانه نوعان من القوانين، الأول ما أودعه بالفطرة لكل البشر، والثاني ينطلق من الأول ويتفرع عنه، لكن لا تتم معرفته إلا عن طريق الأنبياء والمرسلين، فالأول كليات وبنى تأسيسية لكل البشر، والثاني فروع من تلك الكليات ترسم معالم السير الإنساني في الدنيا على ضوء ما أودع في فطرته.
فالقانون الأول موجود في الإنسان وهو غير واع له، والثاني يحتاج إلى إدراك ووعي والتفات كي يقع التسليم لقوانين الله.
ولكي تصبح الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية لا يكفي الوجدان والضمير في كونهما منابع أخلاقية للإنسان، فالغاية هي أن تتحول هذه القوانين الفطرية لقوانين سلوكية مدرَكة تقع عن وعي الإنسان لها، بالتالي يكون سعيه نحوها بعد إدراكها باختيار منه وإرادة منبعثة من هذا الوعي، ويرتبط اختياره ليس فقط بإحرازه الراحة النفسية وراحة الضمير، بل بإحرازه رضا الله، والذي غاية فوق كل الغايات، فالضمير منفردا ليس ضابطة تلزم كل الناس وتضبط سلوكهم، بل لا بد من جهة عليا يرتبط فيها الإنسان بالعقاب والثواب، تقنن له قوانين ناظمة، وبالتالي يستمد منها قواعده العامة، ليقنن على ضوئها قوانين وفق كل زمان ومكان، وتكون الضابطة العميقة نفسيا وأخلاقيا وقيميا هي رضا الله والخوف من عقابه الذي يعني الألم، والسعي لثوابه الذي يحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وليس فقط وجود قانون مخالفته قد تحقق مفسدة للإنسان.
فالتضحية في سبيل الأخرين عمل يقره الضمير والوجدان، ولكن يتجسد كأثر سلوكي يحقق غاية الكمال والتكامل الفردي والاجتماعي إذا ما ارتبط بالله ومعرفته والتسليم لقوانينه كافة.
هذا الوعي في معرفة الله يشكل باعثا للانضباط الأخلاقي فرديا واجتماعيا، وإلا وفق النظرية الغربية وخاصة نظرية المنفعة التي تنطلق من أن منفعة الإنسان ومصلحته هي الباعث والداعي للانضباط القيمي والأخلاقي، فتتهاوى أمام التجربة البشرية الماثلة، فما إن يمتلك الإنسان مصدر قوة يستطيع أن يتجاوز كل الضوابط دون رادع.
والوعي صناعة عدة جهات كما ذكرنا سابقاً: ـ الأسرة التي تشكل النواة المنتجة للأفراد إلى داخل المجتمع، ودورها المحوري في التنشئة القانونية والشرعية، بل قدرتها على تعليم الأبناء أهمية الضوابط والقوانين الاجتماعية، ودورها في تحقيق السعادة والاستقرار.
ـ المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات ومعاهد، وما تتبناه كمنهج تعليمي وما تستخدمه كأدوات.
ـ الدولة وما لديها من خطط تربوية وتعليمية وإعلامية، تنهض بالوعي الفردي والاجتماعي.
ـ المؤسسة الدينية وقدرتها على فهم الدين، وتحويله لمشاريع عمل تنهض بالفرد والمجتمع، وتنخرط كجزء من هذه المشاريع تنفيذيا وليس فقط تنظيريا، بل قدرتها على ترسيخ منظومة القيم والمعايير، وتقديمها نموذجاً مرجعياً نظرياً وسلوكياً في ذلك، ورفد الدولة بالقوانين المستوحاة من الأحكام الفقهية القابلة للتقنين.
ـ مؤسسات المجتمع الأهلية بمختلف مجالاتها، وقدرتها على امتلاك مشاريع عمل، تدمج طبقات المجتمع المختلفة في مشاريع التوعية القانونية، وامتلاك رؤية قادرة على رفد الدولة بضوابط تعالج مشاكل المجتمع، وتدفع باتجاه المزيد من الاستقرار الاجتماعي، لتلعب دورا هاما أيضا في تحويل تجربتها البشرية الميدانية إلى قضايا يمكن تشخيص قوانين ضابطة لها، وعلى ضوء الثوابت ومن خلالها تبني جسرا يمتد بينها وبين المؤسسات الدينية.
ـ الاعلام ودوره في صناعة وعي الجمهور، وترسيخ ثقافة الضوابط والالتزام بها وبالقوانين الداعمة للنظم والاستقرار.
الضبط الاجتماعي والقانون:وينظر إلى القانون على أنه مجموعة قواعد، فيعرف القانون على أنه (مجموعة قواعد عامة مجردة ملزمة تنظم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع)، فالقاعدة القانونية تختص بأنها عامة ومجردة (تنطبق على الجميع) وملزمة.
فموضوع القانون هو الإنسان وسلوكه الاجتماعي وأفعاله وردود أفعاله، وهدفه نظم هذا السلوك بمجموعة من القوانين الملزمة لتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.
ولا يمكن للقانون أن يحدث الأثر المرجو منه، ويحقق الهدف المرجو منه إلا في حال جرى تطبيقه على الجميع دون فرق، وإلا بات القانون لا يساوي الحبر الذي كتب به. فالقانون يرسم الحدود ويضبط السلوك الخارجي وإن جبرا، ولكنه يحتاج عوامل أخرى كي يحقق هدف الاستقرار الاجتماعي المستديم.
وجوهر هذه الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي هو احراز القانون للعدالة الاجتماعية، والعدالة قيمة غائية لا تعتمد في تحقيقها فقط على القانون والضبط الاجتماعي، بل تحتاج بشكل كبير للانضباط القيمي والمعياري والأخلاقي على مستوى الفرد (الذات)، وهو ما قد يمكن تحقيقه من خلال بوابة التقوى، والتي تلعب دورا هاما في الحياة الدنيا، وضبطها وتحقيق العدالة، واستدامة الاستقرار الاجتماعي.
وللقانون ولتطبيقه على الجميع دون فرق، دور كبير في تحقيق الضبط الاجتماعي تشريعيا ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه : ما هي مصادر التقنين ؟ وهل للقانون دور في الضبط الأخلاقي؟
مصادر التقنين:كي يحرز القانون هدفه في الضبط وتحقيق العدل، لابد له من مرجعية خبيرة ومحيطة بالإنسان وعلاقته بالطبيعة والإنسان الآخر، وكيفية نظم هذه العلاقات بما يدفع باتجاه التطور والتقدم والتنمية المستديمة، ويزيل كل العوائق النفسية والاجتماعية.
والمصدر في التقنين يجب أن يتصف بالإحاطة والشمولية والتجرد والموضوعية، حتى يستطيع سن قانون تحقق الهدف من التقنين، ويضبط السلوك الفردي والاجتماعي بما يحفظ النوع الإنساني ويحقق العدل.
فنحن هنا أمام مرجعيتين:١. المرجعية الالهية المحيطة الشاملة الخبيرة غير المحدودة، وهنا نعني من حيث الضوابط والقوانين العامة دون إنكار لدور العقل الذي منحه الله للإنسان في التفصيل، وتشخيص الأصلح، لتحقيق تلك الغايات وتطبيق تلك الحدود العامة.
٢. المرجعية البشرية المحدودة، والتي يلعب فيها كل من العقل البشري المحدود والذات دورا كبيرا في تشخيص القانون.
المرجعية الالهية متمثلة في القرآن الكريم والسنة المعتبرة والحديث المُحَقَّقْ، بحيث يشكل القرآن المرجعية المعرفية المعصومة لباقي المصادر، ويلعب العقل دوراً هاماً ومحوريًا في الوصول لحكم الله.
أما المرجعية البشرية فتتكئ على التجربة، منطلقة من نجاحها في التجارب الطبيعية، مع عدم التفاتها للاختلاف العميق والواقعي بين التجربة الطبيعية والتجربة الاجتماعية والبشرية، وأهمها مجال التطبيق ومدة ظهور النتائج والاثار المترتبة على التجربة.
المرجعية الالهية تنظم القوانين وفق أسس ثابتة وأخرى متغيرة وفق الزمان والمكان، تكون فيها الثوابت مرجعية لتلك المتغيرات، بحيث تشكل قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان، وتكون المتغيرات في مصاديق تحقيق تلك الكليات الثابتة. أو إن كانت كليات ثابتة مع تفاصيلها، فإن المحرك العملي هنا قواعد كلية مرنة منتزعة من الشريعة، تعمل كمفصل مرن يجعل من هذه الثوابت صالحة لكل زمان ومكان، كقاعدة " لا ضرر ولا ضرار " على سبيل المثال لا الحصر.
وهذا لا يعني إلغاء دور العقل ومنع الاستفادة من التجارب البشرية الاجتماعية، فالنبي(ص) أمضى حلف الفضول الذي تأسس قبل الاسلام، كونه يلتقي في مقاصده الاجتماعية وحراكه مع قيم الاسلام الرفيعة، فالإنسان مفطور على حب الخير.
إذا معيار الاستفادة من تجارب الأخرين البشرية الاجتماعية وما يتعلق بالتقنين، هو عدم تعارضها مع القواعد الكلية للشريعة ومع مقاصد الاسلام العليا، وتحقيقها لجوهرة القيم " العدالة "، وعدم امتهانها لكرامة الإنسان ودوره الخلافي على الأرض.
فالعقل أحد مصادر التشريع من جهة، وأحد مصادر المعرفة من جهة أخرى، وهو قادر على كشف الواقع، والانتزاع من جزئيات مستقرئة، قوانين كلية قادرة على نظم الواقع الإنساني اجتماعيا، ويكون الوحي (النص) حارسا يمنع خروج العقل عن جادة التفكير المنطقي، ويمده بالمواد الخام، في حال عجز عن الحصول عليها مستقلا لمعرفة واقع الأمر.
ولكن ما هي ضابطة الإلزام في تطبيق القانون؟
ضابطة الالزام في تطبيق القانون:
وسن القانون وفق قاعدة الحق الالهية المنشأ، ووفق قاعدة المرجعية الالهية مع الاستفادة من التجارب البشرية والعقل البشري، التي لا تتعارض مع هذه المرجعية لا يكفي في تحقيق الهدف، حتى مع الالزام الخارجي في تطبيقه، كون الهدف من القانون احراز الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا لا يتحقق إلا من خلال بناء الفرد بناء معنويا روحيا وفق مبدأ الرقابة الالهية واتصال الدنيا بالآخرة، وليس مبدأ فقط رقابة الدولة عليه لتطبيق القانون، فمع تمكن الفرد من تجاوز القانون دون وقوع عقوبة عليه ودون تطبيق القانون عليه، فإن ذلك يعني عدم قدرة القانون منفردا على تحقيق مبدأ الإلزام الدافع للفرد إلى التطبيق، كون التطبيق يتطلب رقابة من قبل المشرع، ومع غياب الرقابة أو امتلاك الفرد سلطة ونفوذ، فإن ذلك يمكنه من مخالفة القانون. لذلك فإن القانون منفردا لا يمتلك كامل الصلاحيات الإلزامية، التي تدفع الفرد لتطبيق القانون، إلا ضمن شروط محددة زوالها يؤدي إلى المخالفة.
فالقانون لا يلعب دوراً في الضبط الأخلاقي وارتفاع منسوب التقوى، وما يقوم به القانون هو ضبط سلوك الفرد الظاهري، ضمن شروط تحقق الضبط، بينما التقوى والانضباط الأخلاقي، هما الأساس في تطبيق القانون وتحقيق أهدافه. ومع كون التقوى مصطلح إسلامي خاص، إلا أنني هنا لا أعني به المعنى الإسلامي الحرفي فقط، والذي يخلق لدى المسلم حالة نفسية باستشعار رقابة الله الدائمة، مما يمنع النفس من مخالفة القوانين الشرعية والمدنية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، وتمنع الفوضى وإشاعة الفساد. أما بالنسبة للتقوى ببعدها الإنساني الخارج عن حدود الدين والعقيدة، فأعني بها الضمير[1] الأخلاقي الذي يمتلكه كل فرد، هذا الضمير يعتمد على قدرة العقل مستقلا في تمييز الحسن من القبيح، وهو ما يحتاج إلى تحفيز حقيقي، كون الضمير مرتبط بتحقيق اللذة ومتعلق بفعل الفرد، لقدرته على تمييز الحسن من القبيح، بالتالي يسعى دوما للشعور بالسعادة واللذة، واللتان لا تقتصران على الأمور المادية، بل أيضا الأمور المعنوية المرتبطة بإنسانية الإنسان بغض النظر عن أي انتماء.
" فالضمير مركب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقية لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه. وليس الضمير صفة ولادية، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع، وظروف حياته، وتربيته، وهكذا. ويرتبط الضمير ارتباطا وثيقا بالواجب، ويشعر المرء– بوعيه بأنه انجز واجبه تماما –بأنه صافي الضمير، أما انتهاك الواجب فيكون مصحوبا بوخزات التأنيب. والضمير، في استجابته الايجابية لمتطلبات المجتمع، قوة دافعة قوية للتهذيب الأخلاقي للفرد.
والإلزام كضابطة لتطبيق القانون وكقاعدة تعتمد في تطبيقها على الفرد وعلى تربيته وفق مبدأ الرقابة الإلهية، وهو ما يتطلب وجود برنامج شامل يبني قواعده العقدية على أساس التوحيد، وينطلق به ليكمل بناءاته وفق إرادة الخالق المنظمة لجوارحه سلوكيا، وفق مجموعة من القوانين والتشريعات المرسلة عن طريق الأنبياء بالأصالة، ومن يكمل مسيرتهم من الأوصياء والعلماء والنخب الملتزمة لتلك المبادئ قولا وعملا، ووفق مجموعة من القيم والضوابط الأخلاقية التي تعني بضبط بعده الجوانحي المعنوي، وفق نفس الطريق في التبليغ بها.
فما نعيشه اليوم من تجربة للمرجعيات البشرية في سن القوانين الناظمة والضابطة للحياة الاجتماعية، والأوبئة مثال صارخ على تجاوز القيم الأخلاقية في حال تضررت المنفعة العامة وتضرر رأس المال، أي في حل وقع ضررا اقتصاديا كما حدث في وباء كورونا، حيث اعتبر كبار السن غير ذات نفع ولا يعود وجودهم بأي إنتاج يصب في رأس المال، بل يشكلون عبئا على الدولة، فتركوا غالبا دون مساعدة، بل حتى دور الإعاقة في أمريكا قررت بعض الولايات عدم تقديم أي مساعدة لهم، وتركوا لمصيرهم في مواجهة الوباء. وهذا أكبر دليل على عدم قدرتها منفردة في تشخيص الواقع ومعالجته، للقصور الذي يظهر في تلك القوانين بعد مرور زمن طويل على تطبيقها، وظهور جوانب القصور فيها، لعدم تحقيقها للانضباط والاستقرار المستديم، وعدم إرسائها للعدالة الاجتماعية، لخلل ما في التطبيق على الجميع أو لخلل في تشخيص الواقع الذي على ضوئه سن القانون.
فحينما تتحكم النظريات البراغماتية والنفعية كمرجعية أخلاقية في تحديد المسؤوليات الاجتماعية اتجاه الأفراد والمجتمعات، فإن ذلك سيضع قيمة العدالة والكرامة على محك، وسيؤدي إلى ظهور ثغرات أخلاقية حقيقية، تظهر الخلل في فهم العدالة والكرامة، أي خلل مفاهيمي ناشئ عن بنية الغرب المعرفية، ومصادرها التي تستبعد البعد المعنوي والغيبي، وبالتالي تنظر للإنسان كجسد مادي، قيمته تكمن في مدى فائدته لرأس المال العام.
فقد يلتزم الأغلب بالقانون بدافع حماية النفس من العقاب أو التعدي عليها لانتهاك القانون، أو دفعا لاستقرار المجتمع، لكن قد يمتلك بعض الأشخاص من النفوذ المالي والسلطوي ما يمكنهم من تجاوز القوانين الناظمة دون رقيب أو حسيب، فيكون القانون بذلك لا يملك بذاته صفة الالزام، ولم يتم تطبيقه على الجميع لموانع خارجية، غالبها تأتي من تلك الجهة، إما الواضعة للقانون أو المنفذة له، كون الأساس الأخلاقي الحاكم على مسار التطبيق هو الأساس النفعي.
فطالما المنفعة تتطلب تجاوز القانون وعدم تطبيقه، فلن يطبق لتحقيق هذه المنفعة، خاصة عند اجتماع السلطة والنفوذ مع المنفعة والمصلحة الشخصية، المنطلقة من حب الذات، فإن ذلك مع توفره، فلن يلزم صاحبه بتطبيق القانون.
وما يكسب القانون إلزاميته هو الإنسان ذاته، وما يملكه من أبعاد قيمية ومعايير ضابطة، ترتبط إما بتماهيه مع فطرته وما جبل عليه من الخير، أو ما يملكه من ضمير أخلاقي، أو لارتباط هذا العنصر البشري بالسماء وإحرازه لمقومات التقوى المعززة للانضباط الذاتي. والضمير الأخلاقي حينما يتحول إلى ثقافة اجتماعية، بحيث يصبح ارتكاب القبيح أو المخالفة القانونية أمرا مستنكرا اجتماعيا، فإن هذا الاستنكار الجماعي للقبيح وللمخالفة يشكل بذاته ضابطة للفرد وللمجتمع، تمنعه حتى مع عدم وجود رقيب، من ارتكاب القبيح أو مخالفة القانون، تحسبا لاستنكار المجتمع ولعزله اجتماعيا، ولحوق العار الاجتماعي به، نتيجة هذا الانتهاك المخالف للضمير الأخلاقي الاجتماعي.
وغياب الله عن هذا النظم، سيؤدي خاصة في الكوارث، إلى تسلط القوي على الأضعف، وتحكم الأقوى بالأضعف، بل قد يصل الأمر لتحكم القوي بحياة الأضعف، وتحديد حتى موته، كما حدث في الدول الغربية في وباء كورونا، حيث كان الأطباء يقدمون الأصغر سنا على الأكبر سنا في تقديم العلاج، ويتركون كبار السن يواجهون الموت دون أدني مساعدة.
وكان لصحيفة لوموند الفرنسية لقاء مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حول جائحة كورونا Covid-19
ويوضح هابرماس فيها مسألتين:
مسألة المساواة في حق الحياة، وعدم جواز استخدام المقياس الكمي في تشخيص هذا الحق.مسألة الإغراء النفعي الذي يقم قيمة السوق على قيمة حياة الإنسان.
وهما مسألتين تأتيان في سياق فلسفة الغرب الأخلاقية التي تعتمد على نظريتين رئيسيتين في المنهج السلوكي والأفعال وهما: النظرية النفعية والنظرية البراغماتية.
وقد نحتاج لوقت من الزمن حتى تتجلى تداعيات السلوك الغربي أثناء الوباء مع الشعوب الغربية، وتداعيات الفلسفة الأخلاقية التي تم تشييدها على مصادر معرفة محدودة، كان معيارها السيطرة على الطبيعة، وأهملت موضوع السيطرة على الذات.
العولمة وأثرها على الهوية الانسانية؛ کورونا نموذجًا
وبدوره، تحدث في هذه الندوة الافتراضية رئيس أساقفة صور وتوابعها للروم الكاثوليك المطران ميخائيل أبرص حول "العولمة وأثرها على الهوية الإنسانية؛ كورونا أنموذجاً"وإليكم نص المحاضرة: