
وقال ذلك، أستاذ الحوزة العلمية والعضو في مجلس خبراء القيادة في إیران، "الشيخ أحمد مبلغي" في الكلمة التي ألقاها في ندوة بحثية بعنوان "دراسة سيميائية للنص القرآنيّ".
إليكم النصّ الكامل لكلمة الشيخ مبلغي في هذه الندوة البحثية:
"أضع بعون الله هذا البحث الأساسي والمهم في أربعة محاور على النحو التالي، وسأقدم كل محور في منشور:
1 ـ شرح علم السيميائية باختصار.
2 ـ إثبات امكانية تفعيل وتطبيق السيميائية على القرآن.
3 ـ القواعد الواجب اتخاذها واتباعها في مجال التطبيق السيميائي في القرآن.
4 ـ أمثلة على ذلك.
شرح علم السيميائية باختصار:
علم السيميائية هو علم يفحص عن نسيج الإشارات والمعاني والرموز، سواء كانت هذه العلامات علامات طبيعية أم مصطنعة.
وفي بعض الأحيان تكون العلامات علامات يصنعها ويضعها الإنسان في فعله أو في كلامه، بحيث يمكن للآخر أن ينقل الى نواياه وأفكاره وحالاته عن هذه الطريقة.
أما العلامات الطبيعية، فمن الممكن أن تظهر على ثقافة مجتمع ما، أو على تراث شعب ما، أو على القطع الأثرية التي تنتمي إلى مدينة ما، أو أن تظهر على الحيوانات.
ومن بين ما تظهر عليه العلامات الطبيعية، هي كلام الإنسان؛ بمعنى أن المتحدث نفسه لا يقوم بصنع هذه العلامات، وفي الغالب لا يلتفت إليها.
وهذه العلامات الطبيعية، تتكوّن للأشخاص، من جهة أن كل متحدث له شخصية ذات مكونات عقلية وعاطفية محددة، فحيث كان كذلك فهو عندما يتحدث، فإن الموقف الذي يكون فيه من حالة، أو فكرة، أو نظرة ، فهو أي: هذا الموقف تظهر على كلامه علاماته، بحيث إذا حللنا علامات كلامه، يمكننا المضي قدمًا في فهم شخصيته ومكونات هذه الشخصية أو حالاته الفكرية والعقلية.
فعلى سبيل المثال، أن المتحدث إذا كان خائفًا أو متفائلًا أو لديه مستوى عالٍ من المعرفة أو لديه نهج اجتماعي خاص، أو أولوية معينة، فإذا قال الكلمات، فإن علامات تلك المواقف تظهر على تلك الكلمات.
إثبات امكانية تفعيل وتطبيق السيميائية على القرآن:
قد يُعتقد إنما تطبق قواعد السيميائية على الكلام البشري فقط، أما الكلام الالهي فهي لا تطبق عليه؛ لأن كلام الله فوق مستوى الفهم البشري.
فيما يلي ثلاثة أدلة تثبت أنه ليس فقط أن للكلام الإلهي علامات يمكن للإنسان أن يفهمها، بل الواقع أنه تتراكم وتتكثف العلامات في الكلام الإلهي، بشكل مميز لا مثيل ولا شبيه له:
الدلیل الأول: دلالة القرآن على إمكانية وضرورة وصول الفهم البشري الى العلامات القرآنیة:
وقد انعكس هذا المعنى في عدة موارد في القرآن، أشير الى واحد منها، وهو دلاله القرآن على کون عدم الاختلاف في القرآن علامه على نزوله من عند الله.
"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا".
إن هذه الآية تدل بوضوح أن الله سبحانه جعل حقيقة "عدم وجود الاختلاف بين أجزاء القرآن" علامة على "أن القرآن جاء من عند الله" وأن هذه العلامة يفهمها البشر.
والحقيقة أنه إذا لم تكن للإنسان قوة وقابلية لفهم العلامات في القرآن، فلا يبقى مجال لهذا النص القرآني الدال على إمكانية وصول فهم الإنسان لهذه العلامة، بل الدال على الأكثر من قابلية الانسان لفهم هذه العلامة، حيث تعلن الآية بشكل قاطع أن الاختلاف لو كان بين جزء من القرآن مع جزء آخر، لكانوا سيجدونه.
ولو انتبهنا الى أن كون "عدم وجود الاختلاف في القرآن علامة على صدوره من عند الله" ليست علامة عادية، بل هي علامة تتطلب وقتًا ودراسة وتركيزًا وتأملًا جادا، (لأنه يتعين علينا مقارنة أجزاء من القرآن بأجزاء أخرى، ولذلك قال سبحانه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ ...) لو انتبهنا الى ذلك، لانكشف علينا حقيقة أنه إذا كانت مثل هذه العلامة في متناول فهم الإنسان، فإن العديد من العلامات الأخرى (التي لا تتطلب هذا الحد الكثير من التفكير، وهذا القدر العظيم من التأمل)، متاح الوصول اليها لفهم الإنسان بطريق أولى.
الدليل الثاني: الكلام ليس الا ما يتضمن نسقاً من العلامات:
يتكون هذا الدليل من مقدمتين:
1: يحتوي كل كلام على العلامات بطبيعته، وهذا الاحتواء، هو وصف جوهري وأساسي له، بحيث لا يمكن فصل العلامات عن الكلام، بل - كما يقول دي سوسير- "إن اللسان نسق من العلامات التي تعبر عن المعنى".
وعليه لا يمكن افتراض أن العلامات أحيانًا تتوفر للكلام وأحيانًا لا تتوفر.
2: تختلف الكلمات في حجم ونوع العلامات التي تحتوي عليها؛ فقد نشأت وانبثقت بعض الخطابات والكلمات من ذهنية تمتلك المزيد من المعرفة والحكمة، فمثلها تمتلك بالطبع المزيد من العلامات، وبعض الخطابات تشكلت وانبثقت من القليل من المعرفة والحكمة ، فبالطبع لها علامات قليلة.
أي: هناك من يتكلم وعنده الحكمة الكثيرة والمعرفة الواسعة والإدراك القوي للقضايا الاجتماعية، فبطبيعة الحال، تتكثف وتتراكم العلامات في كلماته وتظهر عليها بشكل كبير وضخم.
على العكس من ذلك، هو الشخص الذي ليس لديه وعي قوي وفهم صحيح للقضايا الاجتماعية، فهو عندما يتحدث عن قضية اجتماعية، فبطبيعة الحال لا توجد علامات بارزة في كلامه.
طبعاً لا نريد القول إن كلماته تفقد العلامات، الواقع أن فيها علامات أيضاً إلا أن عمدتها طبيعية (وليست مصطنعة ومتعمدة في حديثه) وتدل هذه العلامات الطبيعية على أن لديه معلومات قليلة، ولديه أفكار محدودة ورؤية غير مفصلة وغير شاملة.
هذا يعني أنه عندما يكون صاحب الكلام عالمًا أو حكيمًا أو شاعرًا أو عبقريًا أو لديه فهم صحيح للقضايا الاجتماعية، فمثله تتوفر في كلامه مجموعة كبيرة جدًا من العلامات الطبيعية والاصطناعية.
وعلى أي حال يمتلك كلام كل من هذين الاثنين (العادي والعبقري) العلامات الطبيعية مع فرق أنه:
أولاً: يمتلك كلام العبقري اضافة الى تلك العلامات الطبيعية، العلامات الارادية الاصطناعية بينما العادي يمتلك قليلا من العلامات الارادية.
ثانياً: يمكن أن يستفاد من كلا النوعين من العلامات في كلام العبقري استفادات فكرية، ويمكن اكتشاف افتراضاتها العلمية عبر هذين النوعين من العلامات الطبيعية والاصطناعية المتوفرة في كلامه، بخلاف كلام العادي فان الاستفادة منه تتم في دائرة محدودة.
الدليل الثالث: زيادة العلامات في الكلام هو العامل في ارتفاع مستواه:
يتكون هذا الدليل من مقدمتين:
1 ـ من العوامل الأساسية لارتفاع مكانة الكلام (إن لم يكن أهمها) وجود المزيد من العلامات فيه. فكلما كثرت العلامات في الخطاب وازدادت فيه الآيات، زاد عمقه وعلوه وتفوقه، وارتفعت أهميته وقيمته ومكانته.
2 ـ لا شك أن كلام الله يفوق أي كلام من كل جانب ومن كل جهة، والا ليس هو كلام الله سبحانه.
النتيجة:
أولاً: كلام الله مملوء بآيات وعلامات أكثر من أي كلام آخر.
ببيان آخر، لا يمكن أن يكون كلام الله بدون علامات ضخمة وواسعة، ناهيك عن القول بأنها تحمل آيات قليلة، لأن هذا يتعارض مع سمو كلمة الله، وهو - أي: فقدانه للعلامات الضخمة- افتراض خاطئ.
ثانيًا: العديد من المعاني والمفاهيم القرآنية تنعكس وتتجلى في هذه العلامات.