إن أهم شيء يمكن ملاحظته في القرآن الكريم هو ما أعد للمتقين من منازل ودرجات عند الله تعالى سواء في الدنيا أو في الآخرة حيث نجد الكثير من الآيات تخصّ المتقين،كما في قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر"، وقوله تعالى: "وأُزلفت الجنة للمتقين"، وغيرها كثير من الآيات التي لم يرد مثلها في المسلمين أو في المؤمنين بل يأتي الوعد للمتقين متميزاً.
فالإنسان قد يكون مؤمناً ولايكون تقياً، فكل تقي مؤمن وليس كل مؤمن تقياً، ذلك أن الإيمان أعم من التقوى.
وهكذا، يتبين لنا من سياق الخطاب القرآني وما جاء فيه من أوصاف وتمايزات للناس أن التقوى ليست مجرد سلوك أو تعبير يمكن التوفر عليه كيفما اتفق بل هي تأتي بلحاظ معرفي يتميز به الإنسان فيما يكون منه من اعتقاد وعمل ومعرفة، ويكفي تدليلاً على ذلك قوله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون."..فالآية المباركة ناظرة إلى حقيقة التميز المعرفي لمن صحت منه التقوى بين أن يكون الإنسان مهتدياً إلى الصراط المستقيم وبين الضلال والتيه في السبل.
فالتقوى كما عرّفت في اللغة والاصطلاح والشرع هي جعل النفس في وقاية مما تخاف، أو عما يؤثِم أو كما يقول الراغب في مفرداته: "هي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه.".وهذه التعريفات كلها تعطي لهذا المصطلح (التقوى) التميز المعرفي والعلمي بحيث يكون الإنسان حيث أمره الله تعالى ولا يكون حيث نهاه، ويكفي تدبراً علمياً في قوله تعالى "ومن يتق الله فهو حسبه" فضلاً عمّا يكون للمتقي من فرقان بين الحق والباطل.
أما في ما يتعلق بالعلاقة بين التقوى والمعرفة، فليس هناك أدلة على ذلك من قوله تعالى:"وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..".وهنا يمكن للباحث أن يتوقف ملياً عند سياق الآية المباركة، إذ هي جاءت في سياق الخطاب لكل الناس، ثم ختمت بالكرامة والتقوى فجعلت ميزان التفاضل بين الناس تقوى الله تعالى، ومهّدت لذلك بالتعارف، وذلك من منطلق أن التعارف بين الأمم والشعوب من مؤدياته العلمية والمنطقية التحقق بالعلم والمعرفة ولعلمنا المسبق بأنه لايبنى على الجهل لا في التعارف ولا في التقوى ولا في تمايز الكرامات..!
لقد أوضح القرآن حقيقة العلاقة بين التقوى والمعرفة، فبين أن الآية ليست بصدد بيان معنى التقوى الفردية التي يحرص عليها الإنسان في أدائه العبادي أو المعرفي، وإنما هي ذات بُعد اجتماعي يؤديه الإنسان وفق رؤيته وتعقله لمعنى خلق هذا العالم بكل تنوعاته التي تتكامل فيما بينها في التوجه والكدح في طريق الله تعالى، فإذا لم يتعارف البشر، فكيف يتفاضلون؟
وإذا لم تكن المعرفة أساساً في فهم حقيقة التحول الإنساني، فلايؤمن على الناس من أن يتصارعوا إلى حد الفناء!كما هو حال عالمنا المعاصر الذي استثمر في العلم والمعرفة لينتج جهلاً وعبثيةً في النظرة إلى الخلق والوجود! ذلكم هو معنى أن يتعارف الناس في أصل خلقتهم، لا في منتهى تحولاتهم، أن يتحولوا عن كونهم أفراداً وجماعات ليكونوا أمة واحدة،كما قال تعالى:"وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون.".إذًا فليكن النظر إلى الكرامة في حال التقوى، ولتكن المعرفة بالله تعالى سبباً للتحقق في ما يؤديه الناس من وظائف تعارفية.
فالإنسان ليس مخلوقاً منعزلاً في حركة وجوده، إذ كيف يكون كذلك وقد جعل الوجود محراباً لسجوده، ومكاناً لتجسيد عهوده؟! إنه إنسان اجتماعي ومخصوص بخطاب التعارف، فتأتي التقوى لتصقل معارفه،وتؤنسن علاقاته لتكون له المفازة في الكرامة، والتحقق في الخلافة.
لقد توافقت حقيقة التكوين مع التشريع وتأصلت الحقيقة الإنسانية في جوهر وجودها على التعارف، وفي هذا التأطر العميق لأصل التعارف جاءت التشريعات الإلهية لنظم وجودية الإنسان وفق علاقات تفاعلية تفرضها طبيعة الانتظام العام في الخلق والوجود؛ وهذا ما أصل له الإسلام على المستوى التشريعي العام في المجتمع الإنساني، جاعلاً من آية التعارف أساساً وأصلاً في هذا الانتظام ترفده التقوى بتصويب حركة التفاعل باتجاه التكامل المنشود لعالم الخلق والوجود.
فإذا لم تكن التقوى بمعناها المعرفي والاجتماعي،فما يكون معنى أن يتعارف الناس؟ إن معنى أن نتقي الله تعالى، وأن يحفظ الإنسان مما يضرّه ويؤذيه، معناه أن يكون الناس حيث أمروا في أصل خلقتهم، وحيث كرّموا في جوهر الخطاب الإلهي لهم، لكي تكون لهم مكنة تصحيح مسار العلاقات البشرية، ونظم أطر التعارف بوعي الهدفية من الخلق،بذلك فقط تُحكم أطر العلاقات،وتنتفي الشحناء والبغضاء ويستوي الخلق عند سر الخطاب بالتقوى..لقد خوطب الإنسان،وأطلقت يده، فلايليق به أن لا يفوز بخطاب الصنع والملائكة تحدق بعلمه، وتحلم أن يكون لها طلعة منبره، فخصّه الله تعالى بخلق التمايز وهداه إلى كدح التعارف، فكانت له الخصائص والمميزات،كما هو حق له بمقتضى خلقه واستواء طبعه.
وهكذا خلق الإنسان للتعارف والتفاعل والتمايز بالإيمان والتقوى،فمن كانت له حقيقة الاستواء المعرفي ارتقى سلم السلامة وفاز بحق الكرامة،ومن قصّرت به المعرفة عن بلوغ المرام وحقيقة الكدح تهاوت به نفسه عن حق الكرامة،ولم يفز بسبق التقوى والعبادة.
بقلم الباحث والأكاديمي اللبناني الدكتور فرح موسى
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: