بعث رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان الدكتور "فرح موسى" مقالا إلى وكالة "إكنا" حول العلاقة بین السیاسة والدين وفيما يلي نعرض نص المقال:
يعتقد الكثيرون ممن يعملون في السياسة؛ أنه يكفيهم من الدين أن ينتموا إليه، فيقدسون الرب، ويصلون في المساجد،أو يؤدون التكاليف الخاصة بهم،ثم تراهم يعرِّفون السياسة وفقًا للمصالح والأهواء والمكاسب الدنيوية! وذلك كله إنما يكون منهم لمجرد الانتماء وعلى قاعدة، أن السياسة شأن بشري، وفن تدبيري!؟ وليس من الصدفة إطلاقًا، أن تجد الرجل السياسي يحكم العباد والبلاد بعنوانه الديني،أو تكون له وظيفة الشأن العام،أو يحرص على حقوق الطائفة!وهو يفتقر لأبسط التعاريف الدينية الفطرية!ولكنه يملك إرادة الزهو السياسي،ليكون إمامًا في الرعاية والتدبير…!
ولعل الأكثر غرابة يكمن في أن من تكون له مسؤولية الرعاية الدينية، هو أيضًا تكون له وظيفة الانتماء، ثم تراه يجهل حقيقة التنوع في التكوين والتشريع، ويتنافس مع غيره على حق اليقين!وكأن المقام الديني له تسبيح العرش العظيم! وكل ذلك،كما نعرف، يتم تحت العنوان الديني المقدس، ورعاية الشؤون القدسية لرعايا ضحايا قد أُفلتوا من عقال الدين بسياسة التجهيل، وصنوف الإغراءات الدنيوية، التي أصبحت بديلًا للدين والسياسة معًا في حكم الناس وتدبير شؤونهم! وانطلاقًا من ذلك،نرى أن حقيقة الانتماء وجوهره لا يكمن في حفظ الموقع،أو الوظيفة وحسب؛وإنما يكون في الوعي الديني لمقتضيات ما تتحقق به المجتمعات الإنسانية من نظريات دينية صادقة يصدر عنها الناس،ويندفعون من خلالها إلى تأكيد الذات،وترجمة الوعي بما يسمح لهم بالتعبير الصادق عن انتماءاتهم،وهذا ما يعبر عنه بالسلوك الاجتماعي المؤطر بالوعي الديني،والكاشف عن حقيقة الانتماء،قولاً وفعلًا،سواء في السلوك الاجتماعي،أو في التعبير السياسي،ولهذا قال تعالى:"كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون..".
ولا شك في أن إشكاليات المبحث تكمن دائمًا في هذه الجدلية بين الوعي الديني والتعبير السياسي.فإذا لم تكن السياسات الدينية تعبيرًا عن صدقية الانتماء والوعي به، فلن يكون لها تأثيراتها الاجتماعية والسياسية على النحو الذي يجعل أهل الإيمان أكثر انسجامًا مع ما تحققوا به من دين، والتزموا به من وصايا وتعاليم.ويكفينا تدبّرًا في تجارب البشر، إذ نجد أكثر تحولاتهم الدينية والسياسية كانت تأتي وفاق رؤية خاصة للدين تصنعها لهم السلطة وطغيان المال،كما كان يفعل قارون ببني إسرائيل،وكما هو حال وديدن الناس جميعًا في تجاربهم مع الأنبياء!فأهل المال والسلطة والترف الديني والسياسي كانوا دائمًا يعترضون على وجود الفقراء إلى جانب الأنبياء،لا لشيء،إلا لكونهم فقراء،أو بادي الرأي،كما قال تعالى:"قالوا أنؤمن لك واتَّبعك الأرذلون.."
إذن، إشكالية المبحث، هي نظرية في الأساس تتعلق بمدى ما هم عليه الناس من انتماء ديني، فإذا كانوا لا يؤمنون، ويرون في الوصايا الدينية مقيدات للفوز بالدنيا، أو لطموحات العمل السياسي، فهذا من شأنه أن يبعث فيهم الحرص على إيجاد البدائل الدينية حتى ولو كانت بدائل سلطوية،كما كان يصنع فرعون وغيره من سلاطين الدنيا!وقد بيّنت لنا التعاليم الدينية في الكتب المقدسة،وكذلك الآثار الموسوية،وفي عموم التراث الديني،أن من أراد الدخول في الأبدية،فما عليه إلا أن يحفظ الوصايا،وهي التي قال عنها البابا يوحنا بولس الثاني:"إن الوصايا ليست مجرد فرائض وحسب،وإنما هي تؤمن حياة العائلة الإنسانية ومستقبلها…".وعليه،فإن معنى الانتماء الديني في جوهره،هو الالتزام الحقيقي في السلوك الاجتماعي،وفي التعبير السياسي؛وإلا كان كذبًا ونفاقًا،وقد علمنا من تراثنا الديني،كيف أن النبي عيسى ع،قد وبّخ الصدوقيين الذين تنكروا للقيامة والملائكة والأرواح،فقال لهم:"تضلون إذ لا تعرفون الكتب،ولا قوة الله.."،كما إنه وبخ اليهود المرائيين لأنهم أبناء قتلة الأنبياء،فقال لهم:"ويلكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون…"،إلى غير ذلك مما عبر عنه الأنبياء في دعواتهم الصادقة إلى ربهم…
فكل شيء في الوصايا، فإذا لم تعبر السياسات الدينية عنها، فلا تلبث السياسة أن تتحول إلى مكر وخداع،وتقارض في الثناء على نحو ما يفعله كثير من أهل السياسة والدين في عالمنا المعاصر!فهم يتجاهلون أهم القواسم المشتركة في التعليم الديني المقدّس،وينسبون أنفسهم إلى الدين انتماءً وسياسةً،وتكون النتائج استبدادًا في السلطة،واستئثارًا في المال،وأَثَرَة ومحاباة في الدين والسياسة!فيا ليت أهل السياسة يلتزمون بالوصايا العظمى التي تشكل مضمون الوصايا العشر كلها،وهل السياسة الصادقة غير هذه الوصايا بكل ما تعنيه فرديًا واجتماعيًا وقبل ذلك إلهيًا؟فأن يحب الناس ربهم من كل قلبهم وعقلهم وقدرتهم،ويخضعون للناموس فيحبون بعضهم بعضًا،ويؤدون فروض الإجلال لربهم،فلا يكذبون في السياسة،ولا ينافقون في العلاقات،ولا يسرقون الأموال،ولا ينطقون عن الله تعالى بالباطل.فإذا لم تكن السياسة تعبيرًا عن هذه الوصايا،فما يكون معنى الانتماد الديني؟
وماذا عسى السياسة أن تكون ،مع الغفلة عن الوصايا، غير الباطل والضلال؟،كما قال تعالى:"فماذا بعد الحق إلا الضلال…".إن أكذوبة الانتماء الديني كانت وستبقى سببًا لكل بلاء يطال الناس في دينهم ودنياهم!فليحفظ الناس الوصايا،ويعملوا بها قبل أن يخسروا الناموس،وينالوا شؤم الأبدية،ولعنة الأنبياء والقديسين…ذلكم هو معنى الانتماء الديني،أن تكون السياسة وعيًا قبل أن تكون تدبيرًا،وأن تكون حقًا قبل أن تكون فنًا في الإدارة،ولعنة في التاريخ!والسلام.