فما هي أسباب تداعي هذه الأمة كي ما تتمايز لتكون إسماً على غير مسمى؟ وما هو الحد الفاصل بين أن يكون المجتمع إسلامياً حقيقياً، وبين أن تكون هناك مجتمعات تسمى بالإسلام وليست به؟!
لا شك في أن الفرق بينهما هو تماماً كالفرق بين هذا صراطي مستقيماً فاتبعّوه، وبين سبل التفريق! فالإسلام بما هو عقيدة وشريعة ونظام حكم، ينظّر له دائماً على أنه يفتقر إلى نظرية في الدولة والسياسة! وهذا أمر التبس فيه الموقف تاريخياً على كثير من الباحثين، مسلمين وغير مسلمين، والذي يعنينا في الإجابة هو تبيان الموقف من غربة المسلمين عن دينهم، فيصدّق بعضهم المزاعم ويختلق إفكًا ويخترق بغير علم ولا هدى!
فأهل الحق يعلمون أن النبي(ص) أقام الدولة وأوجد صيغاً لضبط إيقاع التحالفات والتنوعات، وأحدث خرقاً هائلاً في جدار العصبيات الجاهلية، فكانت وثيقة المدينة من أعظم تجليات النظرية الإسلامية في إخراج الأمة وبناء الدولة.
ولا يتنكر لهذا إلا من اصطلمته البلية العقلية! أو تمكنت منه العصبية الجاهلية! فالدولة وتدبير المجتمع بلحاظ تنوعاته واختلاف منازعه ومشاربه لم يكن ولن يكون مجرد تدبير ضروري وفق سياسات نظم الأمر وحفظ الحقوق للناس وحسب، وإنما هو تدبير محكوم لضوابط إسلامية (قرآنية)، جاء بها الإسلام لتكون بمثابة قواعد وأسس للعمل السياسي وإدارة شؤون المجتمع، تاركاً للعقل أن يثار وفق هذه الضوابط.
ولهذا قال الإمام علي(ع) إن الله واتر الأنبياء وأرسل الرسل لأجل أن يثيروا دفائن العقول…فإذا كان لابد من تحقق المجتمع بالإسلام،فذلك يقتضي التعرف إلى حقيقة الميثاق المأخوذ على الناس لنحكم على مجتمع بالإسلامية أو عدمها! فقد يكون المجتمع متلبساً بالهوى على أنه الإسلام!
فالميثاق الإلهي والالتزام به من قبل الناس هو الذي يحدد ما إذا كان المجتمع إسلامياً،والميثاق العام الذي أخذ من الناس هو الذي يحكم أطر العلاقات الداخلية والخارجية في المجتمع،ويفترض أن تكون السياسة وكل أجهزة الدولة قائمة على أساس هذا الميثاق وعاملة به وفق قوانين الإسلام وضوابطه الأخلاقية، يقول الله تعالى:"وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامي والمساكين وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة…"
فالميثاق أخذ من الأمة الإسرائيلية وهو مأخوذ من الأمة الإسلامية، وكل قوانين الدولة وتدبيرات المجتمع يفترض أن يعمل بها وفق هذا التأسيس لحماية المجتمع من المظالم وتحقيق العدالة، وذلك إنما نذهب إليه بدلالة سياق الآية المباركة التي تقدم فيها القول الحسن على فريضتي الصلاة والزكاة، فضلاً عن لحاظها لما هو أساس في ما تقوم عليه الدولة لجهة رعاية شؤون الفقراء والمساكين واليتامى، وبالتأكيد يأتي على رأس هذا كله التوحيد وما قرن به من أقارب وأرحام..
فالآية ناظرة إلى تأسيسات عميقة جداً في بناء الدولة وتدبير المجتمع،وكل أمة تركت هذا الميثاق ولم تعمل به أقامت سياساتها وقوانينها ونظم أمورها بما يخدم مصالح الطواغيت والمترفين! فالمجتمع إنما يكون إسلامياً حقيقياً فيما لو تأسست علاقاته السياسية والإجتماعية على القول الحسن للناس، وكذلك العبادات التي كلف بها الإنسان فهي مأخوذة بلحاظ هذا الميثاق، وهل الدولة بما هي سلطة وأمر ونهي وتدبير غير هذا؟
نعم، الإحسان والتعارف والتعاون هي بمثابة أسس جوهرية لإدارة المجتمع الإسلامي وبما أن هذا الميثاق الإلهي قد تم الإنقلاب عليه، فلم يتبقى إلا القول: إن ما نعايشه من أزمات هو ناشيء عن كون الأمم والدول قد اختارت صنمية العبادات على أن تكون مجتمعات ذات معنى قيمي وأخلاقي، فجعلت من الأديان مجرد تحولات سلطوية في إدارة شؤون العباد والبلاد!
إن مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة لا تختلف في شيء عن المجتمعات القديمة التي تعايشت مع الأحزاب والفرق الإسلامية، فهي تؤدي فروض الإجلال لله تعالى نظرياً ولكنها لا تصلح في الأرض، بل تزيد من معاناة الناس بعيداً عن ما يقتضيه الميثاق؛ فلايكفي أن تكون لهذه المجتمعات دول وسياسات تدبير طالما هي متولية ومعرضة عن حقيقة ما تتقّوم به أسس وبناءات الدولة والمجتمع لجهة ما ينبغي التزامه من ميثاق ووصايا.
وقد قال النبي عيسى(ع) كما جاء في إنجيل يوحنا: "إذا عملتم بوصاياي تثبتون في محبتي،"وهل الوصايا غير الأخذ بالميثاق والخروج من صنمية العبادات والتكاليف إلى رحاب الإيمان بكل ما يقتضيه من أعمال وسلوكيات وسياسات تمنع الفقر والمرض والجهل والفساد في الأرض!
وهكذا نرى أن جوهر الإجابة على التساؤل المطروح هو هذا أن نتبع الصراط المستقيم ولانتبع السبل ليكون للمجتمع معنى الإسلامية والإنسانية.لقد أسس الإسلام لنواة دولة عالمية، ويكفي تدبراً بعهد الأشتر لأمير المؤمنين(ع) الذي يبين فيه معنى وحقيقة المجتمع الإسلامي، فلايعقل أن يقال عن مجتمعات السلطة والقهر والاستبداد أنها مجتمعات إسلامية! وليس غريباً أبدًا أن تصل الصلافة بكثير من الباحثين إلى تحميل الإسلام مسؤولية التخلف عن اللحاق بركب الحضارة والمدنية! أو أن يتسموا بالإسلامية والنهضوية ليدّعوا حداثة منهجيتهم العلمانية في إدارة شؤون الناس!
فأغلب مجتمعات المسلمين اليوم تدعو إلى القطيعة وليس إلى بناء الثقة والحوار والدعوة بالتي هي أحسن، وهذا ما نرى فيه تجنياً على الإسلام إن لم يكن جهلاً بأحكامه، فهم يبنون حياتهم ومنهجيتهم على تكفير المسلم وغير المسلم على قاعدة الناسخ والمنسوخ، فقالوا إن القرآن ينسخ كل قول حسن وكل دعوة صلح وحوار! فتحولت القواعد عندهم لتكون بمثابة تأسيسات جديدة تمنع من الحوار والتلاقي والتعاون على البر والتقوى، وهذا كله يأتي على خلاف ما أسس له الإسلام في دولته الأولى على نحو ما ذكرنا سابقاً.
لقد عادت الصنمية من جديدة تحت عناوين الوحدة والإسلام والتوحيد، وإن أدنى تأمل في ما هي عليه أوضاع المسلمين لابد أن يكشف عن عمق الهوة بين ما يدعو إليه القرآن من سياسات وتدبيرات وقيم ومبادىء وبين ما آلت إليه تحولات المجتمعات من تحلل وفتن وأحزاب وأهواء وبدع! فأين هو الانسجام والتوافق بين عبادات الناس ومظاهر الإسلام،وبين قيم مباديء وسمو العلاقات الإنسانية التي تدعو إليها وتحث عليها آيات الرحمة والإحسان في القرآن الكريم،والحديث ذو شجون.