
وبذلك يتّضح أن
النور والوجود متساوقان بالحقيقة، وإن اختلفا بالاعتبار، فهما وجهان لحقيقة واحدة هي
حقيقة الظهور المحض.
وإطلاق الوجود من حيث هو هو إحالةٌ إلى حقيقة لا تستقر في مجرّد الذهن، كما أن إطلاق النور يشير، في مستواه الأعلى، إلى درجة من الخفاء يعجز العقل عن الإحاطة بها، وقد عبّر
أهل المعرفة عن هذا المقام بـ الکنز المخفي و الغيب المغيب و عنقاء المغرب و العماء؛ وهي رموز لمقام الإطلاق الوجودي الذي يستعصي على كل تعيين.
وإذا ثبت أن الوجود نورٌ على الإطلاق، من أعلى مراتبه – مرتبة الوجوب – إلى أدنى مراتبه – مرتبة الإمكان –، لزم القول بالتشكيك في حقيقة الوجود، أي بتفاوت مراتبه قربًا وبعدًا عن مبدأ النور. غير أنّ الأمر أعمق من التشكيك في الوجود وحده؛ إذ إن الظهور نفسه ذو مراتب متفاوتة، والنور هو الظهور، فإذا تعددت مراتب الظهور فقد تعددت مراتب النور دون أن يتغيّر سنخه.
إقرأ أيضاً:
وقد وافق الإشراقيون والحكماء من الفرس على أن النفوس والمفارقات أنوارٌ محضة، وأن الأنوار العرضية – كأنوار الكواكب والقمر والسرج – إنما هي تجليات ناقصة لتلك الحقيقة الوجودية. أما الأجسام الطبيعية فهي – بحسب مذهبهم – ظلمات محضة. غير أن التحقيق يدعو إلى القول بأن الطبيعة في أصلها نورٌ ضعيف، إذ لو لم يكن بينها وبين النفس سنخية نورية، لما قبلت الصور ولا قامت بينها علاقة الظهور. فالهيولى – التي هي منشأ الظلمة – لو كانت عدماً صرفًا لما قبلت الصور، ولكنها جهة قابلة، والقبول لا يكون إلا بنحو من المناسبة الوجودية. فانتفاء الظلمة إنما هو بقدر استعلاء النور فيها.
وإذا كانت نسبة السماء إلى الأرض كنسبة النور إلى الظلمة، فليس معنى الظلمة أنها وجود مقابل للنور، بل إنها مرتبة نقص في الظهور. ولذا قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذ السماء والأرض، بوجودهما الإمكاني، تجلٍ لنور الحق. وقال تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾.
ولا إشراق إلا مع قابلية مسبوقة بظلمة النقص.
ومن هنا كانت مراتب الظلمات المتداخلة مراتب للنور من جهة أخرى؛ إذ الظلمة إضافة، والنور ذات. ويتجلّى هذا التشاكل عند مقابلة قوله تعالى: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ بقوله تعالى: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾. وكذلك عند مقابلة قوله تعالى:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾؛فالوجود نور ممتدّ، وما الظل إلا حدّ انقطاع الظهور في درجات الإمكان.
الإنسان: بين نور الفطرة وظلمة التفصيل:
جُبل الإنسان على نور الفطرة، وهو نورٌ إجمالي، ينطوي على قابليةٍ كاملة للتفصيل في ميادين المعرفة والإرادة والعمل. غير أنّه من حيث التفصيل، يبقى في أول الأمر في ظلمةٍ؛ لأن العلم التفصيلي لم يتحقق بعد، ولأن أفعال الجوارح لا تزال غير مستنيرة بضوء الهداية.( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). فالنور والظلمة هنا ليسا ضدين وجوديين، بل ضدين إضافيين؛ يجتمعان في النفس بحسب جهتيها، جهة الجبلة، وجهة الفعل.
والمؤمن، حين يتبع هدى الفطرة ويتلقى النور من منابعه الإلهية، يخرج من ظلمة التفصيل إلى نور المعرفة. أما الكافر، فإنه يخرج من نور الفطرة – وهو أصل كل هداية – إلى ظلمات الجحود. وقد لخص القرآن هذا القانون الوجودي في آية الولاية: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ...﴾.
حقيقة الظلمة وإمكان جعلها:
إن الظلمة بما هي ظلمة ليست شيئًا موجودًا، بل هي عدم النور. والعدم لا يُعلّل، ولا يقع متعلّقًا للجعل الإلهي؛ لأن الجعل يتعلق بالوجود لا بالعدم. ومن هنا كانت الظلمة – من حيث حقيقتها – غير قابلة للجعل، ولا للتعدد، لأنها عدم محض.
لكن استعمال القرآن للفظ «الظلمات» بصيغة الجمع يدل على أن المراد ليس الظلمة العدمية، بل الظلمة الإضافية، أي: درجات النقص في الظهور. وهذه الدرجات تابعة للجعل الوجودي بالعرض لا بالذات، كامتداد الظل الذي لا يمتد لذاته، بل بتبع امتداد النور وانقطاعه عند حدّ معيّن. فالنور حقيقة، والظلمة إضافة. والوجود نور، وما عداه مراتب في الظهور تتفاوت قوة وضعفًا.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري