ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ دارى أَضْدادَهُ أَمِنَ الْمَحارِبَ

23:20 - November 13, 2025
رمز الخبر: 3502415
بيروت ـ إکنا: إن المداراة ليست تملّقاً ولا تنازلاً عن المبادئ، بل هي لباقةٌ وفنٌّ في التعامل مع المختلف والضدّ؛ هي اختيارُ الكلمات التي لا تجرح القلب، ولا تستفزّ المشاعر، ولا تستثير كوامن النفس والذاكرة والماضي.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ دارى أَضْدادَهُ أَمِنَ الْمَحارِبَ".

معادلةٌ مهمّةٌ تفتح لنا باباً واسعاً على فهمٍ عميقٍ لطبيعة العلاقات الإنسانية، وتكشف عن بصيرةٍ أخلاقيةٍ في فنّ التعامل مع الأضداد بحكمةٍ تجنّبنا الصدامَ معهم، فالشجاعة ليست دائماً في الصدام مع المختلف، بل في القدرة على عدم الاضطرار إليه، والقوّة الحقيقية تكمن في التعامل الحكيم الذي يمنع الخلاف قبل أن ينشب، ويُحبِّذ الوصلَ على القطيعة.

وإنّ الحكيم الذي يداري أضداده لا يفعل ذلك ضعفاً ولا جبناً ولا خوفاً، بل يفعله عن قوّةٍ وحكمةٍ ووعيٍ ونُبلٍ. وإنّه لينتصر على غضبه وهواه، ويرتفع عن صغائر الأمور، ويحفظ كرامته من أن تُهتَك، ووقته من أن يُنفَق فيما لا طائلَ منه. وهو بذلك لا يأمن شرَّ المحارب وحسب، بل يرتقي بنفسه إلى مرتبة السمحاء الحكماء، أولئك الذين يصنعون من خلافات الحياة ألواناً تزيّنها، لا سيوفاً تمزّقها.


إقرأ أيضاً:


ولعلّ قارئي الكريم يُدرك أنّ المداراة في جوهرها هي الرفقُ في مواجهة الخلاف، وهي ليست ضعفاً بل ذكاء، وليست تنازلاً عن المبادئ، ولا تضحيةً بالقِيَم، ولا براغماتيةً سياسية. فمَن يداري أضداده لا يُغيّر قناعاته، وإنّما يختار أن يعبّر عنها بلباقةٍ تُجنّبه عداواتٍ يقدر على تجنّبها. أمّا ضدّها، أي المجاهرةُ العنيفةُ بالاختلاف في كلّ موضعٍ ومقام، فهي غالباً طريقٌ إلى النزاع الدائم واستنزاف الطاقات.

المداراة ليست تملّقاً ولا تنازلاً عن المبادئ، بل هي لباقةٌ وفنٌّ في التعامل مع المختلف والضدّ؛ هي اختيارُ الكلمات التي لا تجرح القلب، ولا تستفزّ المشاعر، ولا تستثير كوامن النفس والذاكرة والماضي. هي أن تتعامل مع الطرف الآخر بلين الجانب، وحسن التصرف، ومرونة العقل، وكأنّك تُدير مركبةً في زحامٍ شديدٍ بحذرٍ وحنكةٍ لتجنّب الاصطدام؛ فهي الرديفُ الأرقى للحكمة العمليّة.

واعلم قارئي الكريم  أنّ الأضداد ليسوا بالضرورة أعداءً يتحيّنون فرصة الانقضاض عليك، ولا حاقدين عليك أو حاسدين لك؛ فقد يكون ضدُّك في التفكير والخيارات ابنَك، أو زوجَك، أو أخاك، أو والديك، وقد يكون زميلَك في العمل، أو شريكَك في المؤسسة، أو مديرَك في الشركة، أو جارَك، أو واحداً من أبناء وطنك، أو فئةً منهم. هؤلاء جميعاً ليس من الضروري أن تتّفق معهم في كلّ شيء، ولا أن يقبلوا منك كلّ شيء. لهم آراؤهم ولك رأيك، لهم خلفيّاتهم الفكريّة والعقديّة، ولك خلفيّتك الخاصّة. قد يحبّون ما تكره، ويكرهون ما تحبّ، وقد تتعارض مصالحهم مع مصالحك، وأهدافهم مع أهدافك. وهذا أمرٌ جدُّ طبيعيٍّ، بل ضروريٌّ للحياة الإنسانية التي لا تزدهر إلاّ بالتنوّع والاختلاف.

إنّ اختلافك معهم لا يجوز ـ بحالٍ من الأحوال ـ أن يتحوّل إلى ساحة حربٍ ضروس، بل عليك ما دمت حكيماً أن تداريهم، وأن تختلف معهم بوعيٍ وحكمة، وأن تعبّر عن وجهة نظرك بلباقةٍ، وأن تنتقدهم بأسلوبٍ محترمٍ ينبئ عن وعيك وحكمتك وسموّ نفسك.

وفي حياتنا اليومية، قارئي الكريم، نرى أثرَ هذه المعادلة في صورٍ كثيرة؛ فمن يعرف كيف يداري زملاءه المختلفين في الطباع أو الآراء، يكسب تعاونهم ويصنع بيئةً آمنةً منتجة. أمّا من يصطدم بهم لأدنى اختلافٍ، فيعزل نفسه ويخلق مزيداً من الأعداء. ومن يراعي حساسيات الناس ويفهم دوافعهم ويحترم مشاعرهم ويتفهّم ظروفهم، يحفظ علاقاته رغم التباين معهم. أمّا من يُصرّ على أن يقول كلمته كيفما اتّفق، دون حسابٍ للعواقب، وساعةَ يشاء هو لا ساعةَ يكون الظرف مناسباً، فلابدّ أن يصطدم بالآخرين، وربّما يخسر حقّه أيضاً.

والسياسيّ الذي يداري خصومه بالحكمة لا بالمراوغة، يستطيع أن يجمع المختلفين حول مشروعٍ مشترك، بينما المتهوّر يبدّد طاقات الأمّة في معارك جانبيّة لا طائل منها.

ممّا سبق نتعلّم أن نداري الناس، حتّى المختلفين معنا، سواء في هذه المرحلة التي نعبرها ويعبرها وطنُنا، أو في غيرها من المراحل، إذ تبقى المداراةُ الأسلوبَ الأمثلَ للتعامل معهم، حفظاً لأنفسنا من أن تنحدر إلى قعرٍ لا يليق بنا، ورغبةً في أن يأتي يومٌ نتّفق فيه معهم على أمرٍ أو أمور. وقد عرفنا للتوّ أنّ المداراة ليست مساومةً على القيم، بل ترشيدٌ للأداء، وتوجيهٌ للعاطفة والعقل نحو ما هو أنفع وأبقى.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي

captcha