ويمكن القول إن خيارات البشر ليست وحدها هي التي تحدد المسارات أو تبرم الأحكام أو تحدث الأنباء بل السنن الإلهية هي الحاكمة على كل خيار إنساني بدلالة قوله تعالى: "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"(الأحزاب / 62).
كما قال الإمام علي(ع): "اِستَدِلَّ على ما لَم يَكُن بما قَد كانَ ؛ فإنّ الاُمورَ أشباهٌ" وكما قال الإمام الحسن(ع):"إنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً". إنها السنن التي يدعونا القرآن الكريم إلى الاعتبار بها والاحتكام إليها والتدبر فيها.
فالله تعالى بالغ أمره، وقد جعل الله لكل شيء قدراً وهكذا، فإن تدبرنا في حقيقة ما عرض له القرآن من أحداث وقصص وتحولات عالمية في تاريخ البشرية يرشدنا إلى ضرورة أن يكون الناس واعين بالتجارب وحافظين لها،كما قال الإمام علي(ع): "العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك".
ولهذا، أجمع العلماء على أن انتصارات الأنبياء في التاريخ وما صبروا عليه في تاريخ تجاربهم لم يكن مجرد معجزات من خارج التاريخ، وإنما كان سنناً حاكمةً، وإرادة إلهية فاعلة ومؤثرة في الوجود والأحداث والأشخاص على نحو ما جرى في غزوات الرسول(ص) حيث كان فعل الرسول(ص) تجلياً لهذا الفعل الإلهي، فغزوة بدر مثلًا لم يتعقل كثير من الناس فيها معنى أن ينتصروا بمدد الملائكة ونزول الماء والربط على القلوب وتثبيت الأقدام وإلقاء الرعب،كما جاء في سورة الأنفال عن غزوة بدر الكبرى بما هي فرقان إلهي حاكم وحاسم.وكلنا يعلم معنى قوله تعالى: "وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا".
وكذلك الحال في غزوة الأحزاب التي بلغت فيها القلوب الحناجر، وجاءت ضربة الإمام علي(ع) لتحسم الموقف وتزيل الرعب، حيث قال تعالى:"وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا…"، ثم كانت غزوة خيبر وما أدراك ما خيبر؟! فالناس ليست إرادتهم هي وحدها الفاعلة في حسم المواقف وتحديد الخيارات.
وقد شاء الله تعالى أن تكون الأسباب الباطنة هي الحاكمة، ويد الغيب هي الطائلة، فماذا عساكم أيها الناس أن تقولوا في معنى انتصارات أهل الحق وكل الأحداث المؤلمة التي تعصف بأمة فلسطين بما هي سبب حقيقي لتظهير إرادة الله تعالى، فلا العدو كان منتظراً حتفه،ولا الخائن كان منتبهًا لما يجود به فيض السماء، بل كان الجميع متلبداً على وقع الهزيمة، فجاء الحدث الإلهي ليقول: إن عدو العرب والمسلمين مثلوم في وجوده، ومأزوم في عالمية حضوره!
إنه تحول عالمي جديد يؤتى فيه العدو من حيث لا يعلم رغم كل ما رصد له من أموال وتقنيات وحشود إعلامية وجيوش عدوانية، فالكل يسأل عن وجوده، ومنتبه لمآلات الأحداث كيف تخرج من يده! هكذا،هو حال الطواغيت دائماً أنهم يؤخذون بغتة وهم لا يشعرون! فلو أن فرعون،كما يبين لنا القرآن الكريم،انتبه لخروج السحرة من ملئه وجيشه،لما كان الصلف والكبرياء قد أخذ به إلى البحر ليغرق فيه؟!ولو كان إخوة النبي يوسف(ع) قد علموا ما ستؤول إليه الأمور والتحولات وأسباب الغيب لما كانوا أقدموا على فعلتهم بأخيهم! فالله هو مسبب الأسباب، ولا شريك له فيها،ولابد أن يد الغيب حاكمة في هذا العالم، وهي متجلية في كل قوم يعبدون الله حق عبادته، ويتقونه حق تقاته.
إن أمة فلسطين اليوم بكل ما يحيط بها من فعل وأسباب إلهية، تدعو الناس إلى أن ينظروا ويتدبروا بما هم صائرون إليه من فعل إلهي بكل تجلياته المقاومة ليعلموا أن الأسباب الحقيقية للنصر لاتكمن في أيد الناس وحسب، بل هي أسباب كامنة في الغيب والشهادة معاً.فالأسباب الباطنة كانت وستبقى تبحث عن تجلياتها في إرادة الإنسان وفاعليته، وقد شاء الله تعالى أن تكون فلسطين امتحاناً للإنسانية.
فالعدو اليوم مأخوذ بناصيته كما أخذ طواغيت الأرض من قبله، فلابأس أن يعتبر جيدًا ويرعوي عن صلفه؟! وأنى للظالمين أن يعتبروا بسنن التاريخ وتحولاته، وها هو اليوم يلوذ بكل الشياطين لنصرته! فالمقادير بيد الله تعالى، فإذا ما تجلت إرادة الله في قوم،كما تجلت في بدر والأحزاب وخيبر، فلابد أن ينزل النصر على أهله، والله يؤيد بنصره من يشاء، وقد حكم الله أن جنده هم المنصورون،فحيث تخلص السرائر تنزل النعم وتمتد يد الغيب.
إنها إرادة الله في خلقه أن يمتحنوا في السراء والضراء والبأساء، ولن يكون للناس إلا ما أراده الله تعالى بهم، فإذا ما صدروا عنه وتوفروا على إرادة الصبر والعلم بما أحاط بهم من أسباب في الظاهر والباطن، فإن الله لايخلف وعده، ويكون لهم من الفوز ما كان للرسل والأنبياء من انتصارات،سواء بالحجة والبرهان،أو بالتمكين لإحقاق الحق بكلماته.
إن وجود رسول الله(ص) في غزواته كان سبباً لظهور إرادة الله في النصر والتمكين والظهور،وهكذا كان وجود أنبياء الله موسى وهارون(عليهما السلام)، فصبروا على ما أصابهما وامتحنوا،وكان الصبر سبباً لظهور السحرة من قلب فرعون وملئه،وكذلك هو الأمر في كل أمة تنتصر للحق،فلا بد أن يتوفر فيها هذا التجلي الإلهي،بحيث يكون فيها القائد والولي،الذي من شأن وجوده بين ظهرانيها الأخذ بأزمة الوجود إلى حيث يكون الظهور والنصر الموعود،وهذا ما نراه اليوم في عالمنا بكل طغاته،إذ هو يعيش هاجس هذا التجلي الإلهي،وينتظر كلام لسان الغيب ما يقول لعلمه اليقيني أن تحولاً جديداً سيحكم هذا العالم.
فإذا ما نطق لسان الحق وظهرت بشائر النصر،فتشرق شمس فلسطين،ويتحول كل شيء لتكون إرادة الله تعالى هي النافذة،فحينها يعلم ما إذا كان الناس في غيب أم في شهادة!؟والسلام.
بقلم الأكاديمي والباحث اللبناني "د. فرح موسى"