ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

قَليلٌ يَكفي خَيرٌ مِنْ كَثيرٍ يُطْغي

20:00 - April 09, 2024
رمز الخبر: 3495247
بيروت ـ إکنا: الْغِنى يُطْغِي هذه حقيقة لا يُنكرها إلا الجاهل، والله العليم الخبير المحيط بالنفس البشرية ينَبِّه إليها: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7/ العلق﴾.

جواهر عَلَويَّة...

رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "قَليلٌ يَكفي خَيرٌ مِنْ كَثيرٍ يُطْغي".
 
أيهما الأولى لك: القليل من المال الذي يكفيك حاجاتك، ويغنيك عن شرار الناس، ولا تضطر معه إلى السؤال منهم، أم الكثير الذي يُطغِيكَ ويُرديك، ويصنع منك وحشاً يريد أن ينهش كل شيء، ويلتهم كل شيء؟ الفرق كبير بين القناعة والرضا بالكفاية، وبين الكثرة التي تأخذ إلى الطغيان والاستعلاء والاستكبار.
 
الْغِنى يُطْغِي هذه حقيقة لا يُنكرها إلا الجاهل، والله العليم الخبير المحيط بالنفس البشرية ينَبِّه إليها: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7/ العلق﴾ إن أمر الإنسان لعجيب فإنه متى أحسَّ من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخضوع والخشوع لربه، و تطاول بأذى الناس، وعَدَّ نفسه فوقهم جميعاً، وقد كان من حقه أن يكون وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون فى السراء والضراء. 

والطغيان تجاوز الحَدِّ، وقوله تعالى: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ" الحكم على الإنسان باعتبار الأَعَمِّ الأغلب من أفراده، فإنهم يستعلون ويطغون حين يحسُّون أنهم أغنياء أقوياء، يملكون ما لا يملكه الآخرون.
 
ولا يقتصر الغِنى على الثراء المالي، بل يعُمّ الغِنى في المعرفة والعلم والسلطان والإمكانيات المادية والصناعية والتقنية، والواقع الذي تعيشه الإنسانية الآن يشهد لذلك، فإن الذين يملكون العلم يحاولون أن يُخْضِعوا العالم كله لسيطرتهم واستغلالهم، هذه هي طبيعة أغلب أفراد البشر الذين لم يُهَذِّبوا أنفسهم، ولم يضبطوا انفعالاتهم العاطفية، ولم يُقَيِّدوا جموح شهواتهم وأهوائهم، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، و ينسلخون من عبودية الله، و يرفضون الاعتراف بأحكامه، و يصمّون أذانهم عن ندائه، و لا يراعون حقاً و لا عَدلاً.
 
على أن من حقائق الوجود أن لا الإنسان ولا أي مخلوق آخر قادر على أن يستغني عن الله، بل كل الموجودات الممكنة بحاجة إلى لُطفه ونِعَمه، و إذا انقطع فيضه عنها لحظة واحدة، فإنها تفنى بأجمعها، غير أن الإنسان رغم إدراكه لهذه الحقيقة الكُبرى لكنه حين يستغني يذهب بعيداً في الخطأ، ويتوَهَّم أن غناه من ذاته وناتج سعيه وعمله، فيشعر أنه مستغنٍ عن الله تعالى، بل قد يذهب في الخطأ أبعد من ذلك فيساوي نفسه بالله تعالى ويقول مقالة كل الفراعنة "أنا رَبُّكُم الأَعْلى" وإذا كان يتعامل مع الله بهذه القناعة الزائفة الباطلة، وبهذا الطغيان والتجاوز، فمن الطبيعي أن يطغى على الناس الذين يراهم أقل منه مالاً وعدداً وعُدَّة. 
 
ويروي المفسرون أن ثعلبة بن حاطب وكان من الأنصار قال لرسول الله (ص): ادْعُ الله أن يرزقني مالاً فقال رسول الله (ص): "يا ثَعْلَبَةُ قَلِيْلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيْقُهُ، أَما لَكَ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ تَسِيْرَ الجِبَالُ مَعي ذَهَباً وَفِضَّةً لَسَارَتْ" ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادْعُ اللهَ أن يرزقني مالاً، والذي بعثَك بالحق، لَئِن رزقني الله مالًا لأُعْطِيَنَّ كلَّ ذي حَقٍ حَقَّهُ، فقال (ص): "اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً" فاتخذ ثَعلبةُ غَنَماً، فنَمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنَحّى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، ثم كثرت نُمُواً حتى تباعد من المدينة، فاشتغل بذلك عن صلاة الجُمُعَة والجَماعة، وبعث رسول الله (ص) إليه المُصَدِّق (الذي يجمع الزكاة) ليأخذ الصدقة، فأبى وبَخِلَ، وقال: ما هذه إلا أخت الجزية. فقال رسول الله (ص): "يا وَيْحَ ثَعْلَبَة، يا وَيْحَ ثَعْلَبَة".

و أنزل الله تعالى قوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿76﴾ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿77﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿78/ التوبة﴾.
 
فلو أن ثعلبة رضي بالقليل الذي يكفيه، وكان يكفيه ولم تطمح نفسه للكثير الذي أطغاه وأرداه وأعقبه نفاقاً إلى يوم يلقى الله تعالى لكان خيراً له، فما قَلَّ مع الإنسان مِمّا يكفيه، خير له مِمّا كَثُرَ وهو يلهيه ويُطغيه. 
 
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
captcha