ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ مَلَكَهُ الْجَزَعُ حُرِمَ فَضيلَةَ الصَّبْرِ".
في لحظات الضعف الإنساني أمام الشدّة والابتلاء، والفقد وخسارة الأحبة، والضيق وانسداد الأُفُق يقف الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما:
إمّا أن يتملّكه الجزع، والجزع كما جاء في معاجم اللغة العربية هو عدم احتمال الشدائد، واضطراب واهتزاز، وفقدان الصبر عند المصيبة، وبعبارة أخرى: الجزع هو: انفعال نفسي عميق، بحيث تسيطر المصيبة على الإنسان، فيراها عظيمة، يفقد بسببها اتزانه النفسي والفكري، مما يؤدي به إلى الانهيار أمامها، ويتجسّد غالباً في القلق، والتوتر، والإفراط في البكاء، وصولاً إلى رفض قَدَر الله وعدم الرضا به، بل قد يفضي إلى السُّخط على الله، والعياذ بالله.
إقرأ أيضاً:
أو يختار الصبر على ما أصيب به، والصبر كما جاء في معاجم اللغة العربية هو: حبس النفس وثباتها أمام المكروه، ويتضمن التماسك النفسي للإنسان، والانتصار على انفعالاته ومشاعره، ويقوم على وعيه بأن ما قُدِّر فهو كائن، ولا مجال لردِّه، وأن صبره يخفِّف عليه وطأة المصيبة، ويعينه على تجاوزما أصيب به، وثقته بأنه مأجور عليه، مِمّا يُفضي به إلى الرضا والسكينة والطمأنينة النفسية.
ونستنتج مِمّا سلف أن الجزع في جوهره، ليس مجرّد حزن أو توجّع، بل هو فقدان التوازن أمام الشدائد، بحيث يصبح الإنسان أسير انفعالاته، مغلوباً على أمره، ومن يستبدُّ به الجزع، يُحرَم بطبيعة الحال من فضيلة الصبر، ومن حُرِمَ هذه الفضيلة حُرِم الرضا والطمأنينة، فضلا عن حرمانه القدرة على الثبات أمام عواصف المحن، الأمر الذي يحيله مجرّد كائن منفعل بأحداث الحياة لا فاعل فيها، لأنه لا يملك أدوات ذلك، ولا أرضيته النفسية.
أما الصبر، فهو مهارة ضرورية للتعامل مع وقائع الحياة وأحداثها، وفضيلة لا يتصف بها إلا من امتلك نفسه، وتحرّر من سطوة المصيبة وآلامها، وقسوة اللحظة ومراراتها، وبهذا لا يكون الصبر ضعفاً، ولا استسلاماً غبياً، ولا خنوعاً أمام الأحداث، كما يتوهم البعض، بل هو قوة شكيمة، وقوة عزيمة، وقوة إرادة، ووعيٌ وثباتٌ، ودليل على سموّ الروح، فالصابر لا يُنكِر ألمه، بل يتسامى فوقه، ويرى في البلاء فرصة للارتقاء والاجتباء، وفي التأني مخرجاً من الضيق، وفي التحمّل جسراً يعبر به إلى الفوز والفلاح.
إن الإنسان قارئي الكريم هو في صراع دائم بين الجزع والصبر، وهذا الصراع في حقيقته صراع على مهارة قيادة نفسه، فمن يُسلِّم زمامه للجزع، يفقد بصيرته، ويغرق في اضطراب نفسي لا ينتهي، وعجزٍ لا يمكن تعويضه، فتصبح خسارته محققة، أما من يتسلّح بالصبر، فإنه يُعِدّ نفسه للوقوف بوعي وثبات في وجه تقلبات الحياة وأحداثها، الأمر الذي يكشف عن قوته وشكيمته، ويفضي به إلى النجاح في تجاوز الأزمات بأقل كلفة، والنجاح في تحقيق أهدافه.
ونستلهم مما سبق دروساً عظيمة في مهارة التعامل مع أحداث الحياة ومصائبها ووقائعها، من أهمها: أن الجزع ضَعف يسلب الإنسان وعيه وقدرته وقراره، ويعطِّل فاعليته في الحياة، بينما الصبر وعي وإرادة يمنح الإنسان القوة والثبات، ويدفعه إلى الإمام بخطوات ثابتة متأنِّية.
فلنكن من الذين لا تُضعِفهم المصائب والشدائد، ولنتمسّك بالصبر، بوصفه وعياً وقوة وفضيلة تحمينا من الانهيار أمام وقائع الحياة، وتمنحنا القدرة على تحويل المحن إلى فرَصٍ جديدة.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية "السيد بلال وهبي"