ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

كلما زاد عِلم الرجل تهفو العقول إليه

0:25 - May 12, 2024
رمز الخبر: 3495593
بيروت ـ إکنا: لا ريب في أنه كلما زاد عِلم الرجل غُزُر ونَما، وصار حامله عزيزاً شريفاً تهفو العقول إليه وتنقاد له القلوب.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "كُلُّ شَيْءٍ يَعِزُّ حينَ يَنْزُرُ، إِلاَّ الْعِلمَ فَإِنَّهُ يَعِزُّ حينَ يَغْزُرُ".
 
السِّلع يقل سعرها حين تكثر، ويرتفع حين تَقِل، وهكذا الحال في سعر الأعمال والخدمات، فكما أن للسلعة سعر يتناسب معها من حيث نُدرتها ووَفرتها، كذلك الأعمال والخدمات والاختصاصات فإذا كان العاملون والمتخصِّصون كُثُراً نزل سعر أعمالهم، أما إذا كانوا قِلَّة وكان الطلب على خدماتهم كثيراً فمن الطبيعي أن يرتفع سعر خدماتهم. 

تلك هي المعادلة الحاكمة على حركة السوق، وهي معروفة لدينا جميعاً، وقد بحث علماؤنا هذا الأمر في موضعين، في مباحث العدل الإلهي من علم الكلام، وفي الفقه، تحت عنوان التسعير، وانقسموا إلى فريقين، فريق يرى بأن التسعير بيد الله تعالى لأنه هو الرزَّاق الذي يرزق عبادهم بما أجراه من أسباب طبيعية، فإذا كانت الخيرات وفيرة، وكان الحصاد جزيلاً فمن الطبيعي أن تهبط الأسعار، وإذا كان الحصاد قليلاً نتيجة أسباب من القحط وقلة الأمطار، أو بسبب تلف المحاصيل نتيجة أعاصير أو نحو ذلك فمن الطبيعي أن يرتفع السعر بسبب النُّدرة والقِلَّة، وذهب فريق آخر إلى جواز التسعير من قبل الدولة واستدل كل فريق بأدلة من القرآن الكريم والسُّنَّة المُطَهَّرة، وناقشه الفريق الآخر. 

وملخص الكلام في هذا الشأن ما كتبه العلامة الري شهري في موسوعته "منتخب حِكَم النبي (ص)" إذ قال: يمكن تقسيم السعر إلى قسمين، هما: السعر الطبيعي، والسعر غير الطبيعي. يتحرّك السعر الطبيعي في إطار الأوضاع والمكوّنات الواقعية للسلعة والسوق؛ مثل النوعية، والكمّية، وكلفة الإنتاج، والتوزيع، والِحفظ، والطلب، وكلّ ما له دخل في تكوين القيمة الحقيقية للسلع، أمّا السعر غير الطبيعي فهو ناشئ عن أوضاع غير طبيعية يفرضها البائع، كالاحتكار، والتحالف والتواطؤ على سعرٍ معيّن، أو ما يُعرف بالتباني وإيجاد السوق السوداء.

على ضوء هذا التصنيف، يعدّ السعر الإلهي هو السعر الطبيعي نفسه، ويظهر أنّ الأحاديث التي تنسب السعر إلى اللّه سبحانه تتحدّث عن وجود سعر لكلّ سلعة ينبثق على أساس الشروط الواقعية لوجود تلك السلعة وإنتاجها وتبعاً للحالة الطبيعية للسوق، فما ينتج من حاصل كلفة السلعة والوضع الطبيعي للسوق يمثّل السعر الطبيعي الذي تذكر الأحاديث أنّه من عند اللّه سبحانه، وهو السعر الذي تستقرّ عليه السلعة في السوق إذا لم تتدخّل العوامل غير الطبيعية.

وتحت عنوان: "معارضة النبيّ (ص) للتسعير" قال: يُلقي التنويع السِّعري المشار إليه آنفاً ضوءاً على موقف الدولة من التسعير، فإذا كان التسعير الحكومي بمعنى خفض السعر الطبيعي للسلع، فهو في الحقيقة ظلم للمُنتِج، وإضرار بحركة الإنتاج ذاتها.

ولا ريب أنّ خفض الإنتاج يستتبع التخلّف الاقتصادي، ومن ثمّ لا يحقّ للدولة أن تخفض أسعار السلع تحت مستوى السعر الطبيعي ـالموائم لكلفة الإنتاج والوضع الطبيعي للسوق ـ حتّى في أوضاع الأزمة وفي أوقات شحّة السلع، بل تبرز وظيفتها في مواجهة العوامل غير الطبيعية التي تزيد في الأسعار فوق قيمتها الطبيعية.

على هذا الضوء، تتبيّن الحكمة من وراء معارضة النبيّ والإمام أمير المؤمنين ـ صلوات اللّه عليهما ـ للتسعير ومكافحتهما للاحتكار في الوقت ذاته، فمن جهة كان هذا الموقف يهدف إلى الحؤول دون الإجحاف بالمنتج وإلحاق الظلم به، ممّا يؤدّي إلى خفض مستوى الإنتاج، كما كان يسعى من جهة أخرى للقضاء على العناصر التي تفضي إلى ارتفاع الأسعار من دون ضابطة.

على هذا يبدو أنّ الفقهاء الذين أفتوا بعدم جواز التسعير مطلقاً كانوا ناظرين إلى هذا المعنى.

ما سبق كان ناظراً إلى هذه الجملة من كلام الإمام أمير المؤمنين (ع): "كُلُّ شَيْءٍ يَعِزُّ حينَ يَنْزُرُ" أما الجملة الثانية: "إِلاَّ الْعِلمَ فَإِنَّهُ يَعِزُّ حينَ يَغْزُرُ" فلا ريب في أنه كلما زاد عِلم الرجل غُزُر ونَما، وصار حامله عزيزاً شريفاً تهفو العقول إليه وتنقاد له القلوب، وهذا ما جاء في كلام أمير المؤمنين (ع) مع كميل بن زياد: "يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ".
 
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
 
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
captcha