وأشار إلی ذلك، الکاتب و المحلل السیاسی "بلال اللقیس" خلال المقال الذی کتب لوکالة الانباء القرآنیة العالمیة إکنا و فیما یلی نص المقال:
أصبح الإنقسام السياسي في منطقة غرب آسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بين خطين رئيسين ، بحيث انّ غالبية الأحداث كانت انعكاسا مباشراً أو غير مباشر لهذا الصراع إذ يمكن اعتبار هذا الصراع بين , تأبيد هيمنة الغرب الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية وخطاب العودة الى الشعوب وإرادتها وهويتها وأصالتها الإيمانية ونداء الإستقلال الفعلي واستعادة الشعوب ناصية قرارها وشّق طريق التحرر والإعتماد على الذات والتعاطي بندية الذي قادته الجمهورية الإسلامية , هو المفّسر الأوّل والأبرز لغالبية أحداث المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي الى اليوم والغد . فالغرب الأمريكي اعتبر أنّها فرصة استكمال قوس هيمنته الثالث بعد الحربين العالميتين ، وأنّ المنطقة بوابة ذلك التحوّل ، وأنّ تأبيد هيمنته يرتبط بسيطرته التامة على منطقة غرب آسيا ربطاً برؤيته للقرن الجديد ، في مقابل إيران وثورتها التي ألهمت كل مظلوم وباحث عن عدالة في قبالة التهميش الإجتماعي والسياسي والثقافي وحالة اللاعدالة المستحكمة عالمياً ، ووصل نداؤها بقوة الى كل معانٍ من عسف الغرب والشرق وقيادتهما للعبة السيطرة بدعاوى عدة ليس الحرب الباردة الا واحدة من أشكالها .... يسأل استراتيجيو أميركا هل سياسة الهيمنة هي دورانية وليس تصاعدية وأنّ ثمة تحديات لم يكن يخال أنّها تنتظرهم وستواجه مشروعهم بقوة وجسارة وحنكة ، هل هي سنن التاريخ أم أخطائهم أم كليهما !!!.
شكّلت المنطقة محور السياسة الأمريكية لأربعة عقود منذ وراثتها للاستعمار البريطاني- الفرنسي الكلاسيكي عام 1958 ، وراحت تضع استراتيجية تلو أخرى لتثبيت سيطرتها ، فاعتمدت على حلفاء تقليديين في الخليج وعلى إسرائيل كامتداد ثقافي وقيمي وعسكري لها وعلى استراتيجية الرّد السريع مرحلة كارتر ثم لغة القوة المباشرة ثم مفاوضات المنتصر الذي هيّأ لمسرح التسوية بين العرب وإسرائيل في تسعينيات القرن المنصرم . تجاوزت أميركا ذلك 2001 للحضور المباشر والفيزيائي ليطرح السؤال : هل كانت تريد الإحتلال المباشر والتقسيم كما نصّت كتابات كبار قومها وسياسييها وهل جاءت هذه الخطوة كتعبير عن عجز حلفائها من القيام بدور تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها في المنطقة ، وهل كانت هذه الخطوة ضرورية لها – حرب الضرورة أم الخيار- !!.
بكل الأحوال نظرت أميركا للمنطقة من بوابة صراعها مع الإتحاد السوفياتي الى حين سقوطه ، فتحّول حينئذ صراعها نحو الجمهورية الإسلامية كقوة أصيلة في هذه المنطقة وليست مستوردة ومتمّيزة بجملة خصائص استثنائية ( الإنسان والأمة والتدّين وتميّز الجغرافيا السياسية وحلفاء مقتنعون ومتفاعلون مع خطابها ونداء ثورتها) ، فنجحت إيران في لحظة الإنحاء العالمي أمام أميركا من تحّدي أميركا وسياساتها حتّى غدت معضلة أميركا الأولى التي انتقصت من شرعية أميركا وسطوتها وظهّرت ارتباك سياسات أميركا وسوء تقديراتها وتراجع نموذجها – أي أميركا – إذ أنّ إيران تعتبر الدولة التي كانت الأقّل دعما لحلفائها والأكثر عوائداً مقانة بدول أخرى أنفقت ودعمت بإمكانات هائلة وعلى امتداد عقود بل وقرون ( أميركا – فرنسا – السعودية – الاتحاد السوفياتي - ..) وكانت وحلفائها تجربة فريدة بهذا المعنى وبما يؤكد نوعية العلاقة وميزتها في عالم لم يعتّد هذا البرادايم في العلاقات بين قواه .
لم يكن يتوّقع الأمريكي في زخم قوته ومهابته الدولية أن يتعثّر أيّما تعّثر وتفشل اهدافه في المنطقة ، لم يقرأ منطقة عمله بطريقة صحيحة أو لم يجد الأدوات للقراءة الصحيحة .
إنّ تركيبة هذه المنطقة المعقّدة منذ زمن بعيد وصولاً لوعد بلفور ثم اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمون التي لم تكن المنطقة مؤهلة لإعتماد نسخة الدولة القومية فيها كالتي طبِقت في الغرب إذ لم تكن الشعوب مهيّاة نفسياً وثقافياً لهكذا تجربة ولم تكن الأنظمة قادرة على إدارة دولة قومية بكفاءة وعقلانية ومعرفة فلم نبنِ دولاً ولا استطعنا بناء مجتمعات وأوطان في كل الأقطار العربية ، كل ذلك زاد من التشوهات والأزمات والتعقيدات ، فبقينا عقوداً نترّنح بين أزمات داخل الكيانات وأزمات حول هوية الكيانات ونهائيتها ولم نتمكّن من اجتراح صيغة تكامل في ظل السيادة والنهائية . كما أنّ هذه المنطقة قامت تاريخياً على تنافسات حادة بين عواصم عدّة ، فلم يتوّفر لهذه المنطقة دولة واحدة كانت من القوة بأنّ قادة الآخرين ، بل كانت دوماً اللعبة الاستراتيجية أشبه بتفاعل مجموعة مثلثات صغرى ووسطى وكبرى كما أثبتت التجربة . وتمكّن الأمريكي أن يدير اللعبة في مرحلة ما على قاعدة الموازنة بين اللاعبين تارة عرب عرب وطوراً عرب عجم وطوراً آخر أنظمة عربية مع "إسرائيل" لمواجهة إيران أو بالحد الأقصى لموازنتها كما هو جارٍ اليوم تحت مسمى اتفاقية ابراهام .
الجديد الأبرز في هذه اللعبة هو ما وصلنا اليه اليوم أي في العام 2023 ، حيث تتراجع غالبية هذه القوى بالميزان الاستراتيجي وتتقدّم إيران رغم التعقيدات والصعوبات التي واجهها وتواجهها مجتمعات المقاومة .
السعودية تعود القهقرى الى مفهوم الدولة القومية بعد سلسلة هزائم منيت بها وتبحث في هوية وطنية تحاول اصطناع معالمها كتعويض عن تشتت هوياتي عانت منه ، اكتشفت أنّها أنفقت في الخارج عبثاً أي جاءت النتائج إمّا إرهاباً أو من سرق مالها بلا عائد معتّد به – بغّض النظر عن تقييمنا وعمّا إذا كانت ستنجح أم ستفشل في بناء الهوية الجديدة التي تتمحور حول نيوم - ، تركيا تعيد النظر في سياساتها بعد أن أدركت حدود القدرة ( حتّى لو بقي لديها هوامش يمكن أن تلعب فيها أدواراً) ، أمّا مصر فتبدو هي الأخرى تعاني ومهدّدة بالانهيار التام وتواجه تحدّيات وجودية ,الدور الإقتصاد والماء, . والأرجح أنّا سنشهد بروزاً جديداً على الساحة العربية لدول مثل الجزائر كتعويض جزئي للفراغ الذي يصيب الواقع العربي والتضعضع . أمّا "اسرائيل" فتعاني اليوم من ارتباك وتشّتت وتلاشي ثقة على كل المستويات ومن انعدام الأمل بالمستقبل كما لم تعشه في تاريخها . بينما تتقدّم إيران بثبات وعزيمة نحو أهدافها وتثبيت مقارباتها وما تريد ، فاليوم نقول وبملء الثقة أنّها تحتل موقع الدولة الإقليمية العظمى ولأنّها نجحت الى حدود بعيدة في تحويل أغلب التهديدات الى فرص وأنّها قاب قوسين من تقديم نموذجاً بالاستقلال والمساندة الإقتصادية لأصحاب الحاجة ، فقدرة إيران على تلبية الإحتياح العربي والمسلم والاستجابة لأسئلته وتطلعاته هي التي ستكون حاكمة على دخولها الى الوعي والشارع العربي وتمّدد حضورها مهما حاولوا منعها أو تشويه صورتها ... فاليوم نجحت إيران في علاقاتها الخارجية بأن ساهمت في دعم حلفاء دون أن تلغي أو تتجاوز الخصوصيات والنهائيات ، هكذا الأمر في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والى حد كبير العراق . إنّ هذه تجربة جديدة في الأداء والعمل ، ونجحت في بناء تحافات وثيقة وراسخة مع قوى المقاومة ومجتمعاتها بأقّل دعم مقارنة بدعم الغرب والخليج في العالم والإقليم لحلفائه وجماعاته . وهي تطّل اليوم من خلال تطوير أجندتها باتجاه المسرح الدولي في البحار وفي أوكرانيا وفي أفريقيا وصولاً لأميركا اللاتينية ... ويمكن القول أنّه رغم أحداث التظاهرات بين الفينة والأخرى وبمعزل عن تقييمنا لأسبابها الصحيح منه والموّجه ، إلاّ أنّ إيران تبدو الدولة الأكثر حرية فكرية وثقافية وسياسية والنظام الأكثر تماسكاً وتأييداً من شعبه مقارنة بالأنظمة في بلاد العرب وبلاد العم سام والغرب ، والأهّم من ذلك أنّها الدولة الوحيدة التي تمتلك خطاباً جاذباً غير متطرف .
إلاّ أنّه ورغم هذا الانجاز النوعي لإيران وتطور مكانتها والفرص التي تلوح أمامها لكن يبقى الوضع الإقليمي مضطرب ويعاني السيلان ومعرّض لمزيد من المخاوف والهواجس في أي لحظة طالما أنّه لم ينوجد صيغة نظام سياسي تحكمه بعد انهيار النظام الإقليمي القديم . منطقتنا اليوم لا تزال تعيش حالة فوضى ويتحكم فيها نفس الإنتقام إذا أتيحت الفرصة لبعضهم وتحكمها لعبة التوازن الحاد الذي اختّل بقوّة لصالح إيران ويخشى خصومها من تماديه ، فلعبة التوازن بلا ناظم هي لعبة خطرة لا يمكن أن تقود الى الاستقرار وأن تحّقق مقّدمات التنمية بل تبقي الأطراف في قلق وبالتالي تحرم المنطقة من الكثير من الفرص الإقتصادية بين دولها الأصيلة – أي بدون الكيان الصهيوني- وتتيح للغرب اللعب على التناقضات واستغلالها رغم ما يعانيه من أزمات .
وفي مقابل عجز أو عدم جاهزية الأمريكي- الاسرائيلي للقيام بعمل عسكري كبير ضدّ أي من قوى المقاومة فضلاً عن توجيه ضربة عسكرية للمركز– أي إيران – ، وبعد فشل الربيع العربي والذي كانت أحد أهدافه الرئيسة تحقيق موازنة استراتيجية بين نموذج تركيا ومن يساندها في العالم العربي والإسلامي بظهير إسرائيلي مع نموذج إيران من خلال حرف مسار الربيع العربي والتحكم في وجهته .
بعد فشل كل هذه الاستراتيجيات فإنّ أسلوب الحرب الهجينة يبقى هو الخيار المعقول في انتظار ما ستسفر عنه هذه الحرب من نتائج داخلية تتراوح وفق رؤيتهم بين إسقاط النظام والدولة إن أمكن ذلك وبين إعلان التعب والاستغاثة بسُّلم سياسي متنقل يتّم التعويض عبره عن الإقتصادي بالتنازل السياسي ومقايضة هذا بذاك على طريقة التاجر . وهذه النقطة هي المكملة لسياسات اتفاقية ابراهام التي استكملت العمل بها إدارة بايدن بعد ترامب .
وبهذا تتضافر عدة خطوط عمل ، خط التخويف من تهديد وجودي اسمه إيران المخيفة لجهة تنامي نفوذها وتزايد تأثير حلفائها في المعادلات الكبرى بعد تهميش، وخط اتفاقيات ابراهام وخط الحرب الهجينة على الدول التي لا تريد الانضمام الى الاصطفاف الغربي أو تريد خياراً مضاداً كخيار المقاومة واستكمال عملية التحّرر والتحرير .
ممّا يعني أنّه لن يكون لديهم خياراً معقولاً خلال هذه المرحلة المستقطعة من تاريخ العالم وتحولاته يحّقق لهم نتائج جزئية تراكميه في مواجهتنا الا مسار الضغط الاقتصادي واالمنع أي وضع فيتو بوجه مساعينا للنهوض والبناء الثقافي والسياسي لمجتمعاتنا ودول محور المقاومة ، هم يريدون وسم حال قوى المقاومة بمقولة "أن لا أفق ولا حياة الحد الأدنى ولا رخاء بل اضطراب وعوز مادي" بهدف اضعاف شرعية نجاحات المقاومة وزخمه وإيجاد الترّدد وعي الناس حيال خيارهم وشكّهم بجدوائيته ، وعلى خط موازٍ استكمال العمل بمشروع تسوية ابراهام ببعديها السياسي والأمني والنفسي لإيجاد حالة من التضامن ولو الشكلي في مواجهة إيران للحؤول دون استمرار تمّدد نفوذها وملء فراغ استراتيجي لا مناص أنّه توّلد من حين لحظة إعلان أميركا أنّ محور سياستها (pivot) انتقل الى شرق آسيا ومستتبعات ذلك النفسية والردعية على حلفائها في غرب آسيا .... لكن هذا الطريق من المنع والضغط علينا هو أيضاً محفوف بالخطر وقد يحمل مفاجآت لهم كتلك التي حملتها الجماهير الثورية يوم أسقطت الأنظمة السياسية الحليفة لهم وكسرت الطوق السياسي أبّان الثورة بقيادة الامام الخميني قدس ، فقد يؤدّي هذا الضغط الى تمكن المجتمعات من تخّطي الحصار الإقتصادي وكسره وإحداث ثورة في الإستقلال الإقتصادي والمعرفي على غرار الثورة السياسية الشعبية مستفيدة من رحم التطورات الدولية الجارية ، أو أن تتعاون مجموعة دول وشعوب متضررة من الهيمنة الأمريكية فتهتدي للإتحاد على إيجاد مشترك لمجموعة معايير مالية وإقتصادية فيكسرون الطوق الأمريكي عملياً بعيداً عن النظام الدولي القائم . وهو ما تؤكد الوقائع الدولية والعالمية اقترابنا منه . أو ربّما تتجّه الشعوب المتّضررة بخطوات لتقارب عسكري واستراتيجي لتحالف جديد عابر للقارات بوجه الناتو
فالمنطقة تبدو حاجة كبرى لأي لاعب دولي وضرورة حتى لو انتقل تركيزه الى شرق آسيا كما هو حال الأمريكي اليوم ، فمن خلالها يمكنه الضغط على الصين ونموها من شريان النفط وعلى روسيا لمنعها من الوصول الى المياه الدافئة وعلى إيران لخصوصيتها في استنزاف الشرعية الأمريكي المدّعاة . وهو لا يمكن أن يقبل أن تتربّع على قيادة هذه المنطقة دولة مناوئة له أو سيدّة قرارها بالمعنى الفعلي للكلمة .
وحيث أنّ الأمريكي في زمن السعي لإعادة أو إستعادة المبادرة الاستراتيجية لتعويض تصدع الآحادية بسلسلة اخفاقاته والعمى الاستراتيجي الذي ابتلي به في العقود الأخيرة ، فهو يخّطط لتسكين المنطقة وترميمها وإطلاق قدرات حلفائه لترميم ذواتهم وإثبات قدرتهم على السير دونما التوّكؤ الدائم عليه والمستمر ، هو يريد منهم العمل الذاتي ضمن المحددات العامة التي يرسمها لهم لا استدراجه الى أجنداتهم الإقليمية والتنافسية ، وبالآن ذاته يمنع خصومه من أن يقدموا تجربة بناء إجتماعية وإعمار مجتمعاتهم وضرب نموذجهم حتى تكون إسرائيل وحدها المنقذ لهم ومالكة حبل الخلاص لمساعدتهم وليس إيران مثلاً ... وهناك من يقول أنّ الأمريكي مربك بما يريد من المنطقة وكيف يحّقق ذلك فبين رغبته وقدرته تتسع الهوّة في منطقتنا ، وهو ما نؤيده دون أن ننفي المقاربة الأولى للمنطقة ، لكن هو أيضاً لم يعد محّدد الأجندة بمفرده ، هو أيضاً يعيش ضغط : كيف سيتصّرف أعداؤه أي محور المقاومة – وهذا ما يزيد من الغموض .
وهو ما تؤكده المعطيات الميدانية والدولية لا تشي بتحّقق ذلك أي تصور أميركا الحالي للمنطقة ، الأنظمة العربية مربكة في صناعة توجهاتها الجديدة و "إسرائيل" متعثرة كما لا تصاب في تاريخها بهذا التضعضع وانكشف وهنها ويتحكم بها مجموعة متطرفين تحكمهم رؤية مصلحية والشارع الإسرائيلي منقسم ومشتتّ كما لم يسبق من قبل والمقاومة تتحرّك اليوم في أراضي 48 و67 ما يعني أنّ الكيان مأزوم فعلاً وتظهر استطلاعات الرأي أنّ حوالي نصفه لم تعد تثق بمؤسساته السياسية والقضائية الخ .
ودولياً ، يلحظ هيجان عالمي في وجه الغرب الأمريكي والأوروبي ومحاولات طرد النفوذ الاستعماري للغرب في كل الساحات بدءاً من أفريقيا الى أميركا اللاتينية الى امتعاض نفس المجتمعات الأوروبية وانقسامها حول الخيارات الكبرى وليس انتهاءاً بشعوب منطقتنا وتراجع آمالهم التي عًقدت على الغرب .
فالدول العربية ، باتت أكثر من أي وقت مضى محتاطة أو متحوّطة من الانجرار بالوعود الغربية دون أن تجد بديلاً مطمئناً لها ، أو أنّ طلباتها من أميركا أكبر من قدرة الأخيرة على الإلتزام بها ، فلا يمكن لأميركا أن تسير بشرط اعتبار علاقتها الاستراتيجية مع السعودية معاهدة تقّر في الكونغرس . ولا يمكن لأميركا تلبية أهواء النظام السعودي وطموحاته بالتحّول الى دولة نووية "سلمية" كما يطمح أو يفترض أو حتّى تسليمه سلاح كاسر للتوازن بينما تستطيع دول أخرى كالصين المساعدة في ذلك وهذا ما يقلق أميركا اليوم وما سيجعلها تعّزز من حضورها الأمني والعسكري في الخليج بدعوى حماية حلفائها – ولو أنّ الحقيقة العميقة تبدو مغايرة- ، بل هي تريد أن تبقي حلفائها وعلى رأسهم السعودي في موقع الابتزاز كما نرى اليوم من منع الحل النهائي في اليمن رغم حاجة السعودية للاستقرار النهائي والأمني ومساعيها لأخذ ضمانات من الطرف اليمني الذي يلتزم بذلك ويتعهّد به. الكلام نفسه يسري على تركيا التي رغم الفارق الماهوي بينها وبين السعودية إلاّ أنّها أيضاً مترّددة في موقعها وعلاقاتها ومستقبلها الجيوبوليتيكي هي انتقلت من صفر مشاكل الى صفر نتائج تقريباً !!.
ولو تمعّنا في المشهد الدولي ومساراته خصوصاً الصراع الروسي مع الناتو(بالوكالة) في أوكرانيا لأدركنا أنّ نتائج هذا الصراع لن تكون لمصلحة الغرب حتّى إذا لم تواتي حسابات قيصر روسيا بوتين وتتطابق معها ، وبالتالي الغرب سيكون تباعاً أحوج الى حلفاء يمدونه بأسباب القوة وعنصر الطاقة والاستمرار ، وهذا ما سيعّزز دور القوى الوسطى والإقليمية في المعادلة الدولية مثل السعودية مثل الجزائر مثل البرازيل وفنزويلا .
والسياق نفسه ينطبق على إيران كقوة إقليمية عظمى ، فهي مرشّحة أكثر من غيرها من دول الإقليم للعب أدواراً دولية بالإفادة من الظرف العالمي ، هي ستكون حاجة استراتيجية لروسيا والصين وباكستان والهند وأكثر من غيرها بمسافات بسبب مؤهلاتها وإمكانياتها والعامل البشري والعلمي في ساحتها ووفرة ثرواتها وتنوعها وقدرتها على اتخاذ قرار سيادي مستقل لا يتأثّر بعوامل الضغط الغربي والخارجي .
بالعودة الى اتفاقات ابراهام ، التي كما ذكرنا أنّها ليست فعلاً منفرداً إنمّا ينضّم الى جملة مسارات متشابكة ومندمجة أي مسار ملء الفراغ الاستراتيجي ومسار إيجاد توازن مع إيران ومسار السلام الإقتصادي ومسار التحّول الدولي الجاري .
إنّ محاولات استكمال العم باتفاقيات ابراهام تبدو متواضعة وغير متينة وتقوم على قواعد هشّة ، ولولا الحذر الأمني الذي علينا التنبّه له من اقتراب الكيان الصهيوني من الجوار الإيراني في ضفة الخليج الثانية لاستطعنا القول أنّ العوامل الموضوعية لنجاح أو فاعلية هذا المسار – الإبراهميمة – تبدو معدومة ، هو حاجة إسرائيلية صرفة وليس حاجة عربية جدّية إلاّ بالمعنى الأمني ، والمشكلة أنّ إسرائيل لا تعرف اليوم ماذا تريد وكيف تسير وتتجّه إنّها تتخبّط !! . أمّا الجنبة الأمنية من الإتفاق فيصعب على الكيان الصهيوني تقديمه لبعض الأنظمة العربية إذ إنّ من هو عاجز عن حماية نفسه كيف به أن يحمي غيره إن البحرين أو الإمارات والسودان وغيرهم ، ثمّ إنّ السعودية ليست جاهزة للسير بدون الشروط التي عرضناها آنفاً وهذه الشروط يتعذّر على أي إدارة أمريكية الالتزام بها ... وعليه فإنّ المسار الأخطر الذي نشهده اليوم هو مسار الابتزاز الٌإقتصادي ومعنونه السلام الاقتصادي لتقديم التنازلات السياسية كما يحصل الآن أو سيحصل مع الأردن ومصر ويسعون لمثله مع سوريا ولبنان . بكل الأحوال وبنظرة أكثر شمولاً وإجمالاً : إنّ التسوية التي رعتها أميركا في تسعينيات القرن الماضي – مدريد - لم تبلغ مراميها رغم كل التركيز والجهد الدولي والأمريكي والظروف المؤاتية لإسرائيل والغرب على امتداد عقد حينها ولم تأت النتائج بحسب ما كان مرتجى منها بل فشلت في بتحقيق حتّى الحّد الأدنى ، أصبحت التسوية مع الفلسطينيين التي يفترض أنّها الأساس والأصل مهدّدة وعلى المحّك ، انتهى حل الدولتين وانطلقت المقاومة المسلحة في الضفة وجنين وال 48 وباتت غزّة تشّكل أرقاً وقوة ردع فعلية وبقية الساحات ليست أفضل حالاً للكيان . أمّا للدول المطبعة فلم يتحّقق الرخاء ولا الوعود بالتنمية بل خسرت الأنظمة هيبة موقف الممانعة والمقاومة وشرعيته وخسرت إمكانية أو فرصة تحسين أدائها الإقتصادي والتنمية بإرادة ذاتية .
يبقى السؤال بعد هذا التوصيف أو لنقل التحليل والذي عرضنا فيه لطبيعة الفرصة المتوّلدة الكبيرة والمتنامية أمام أعيننا والدور الكبير المنتظر أن تلعبه إيران في هذا الفضاء الدولي المتوّلد بأن تحجز لها مكاناً ومكانة وخطاباً خاصاً في العالم الجديد ، فالعالم الجديد لا يجب أن يبنى على أساس معيار الثروة والقوة المادية وهيرارشيتها ولا على أساس القوة العسكرية وتصنيفاتها للدول ولا على أساس الديمقراطية الليبرالية وظلمها ولاعدالتها ولا على أساس آحادية تكتسح التنوّع وتلغي التعارف ، العالم الجديد ينتظر بصمة جديدة وقواعد ومعايير مختلفة يُعقد على أهل الخيار المقاوم المؤمن . في هذا العالم الجديد ماذا علينا أن نفعل ، وهو الأهّم من وجهة نظر معيّنة :
أولاً وهي النقطة الأهّم ، هي الاستمرار بخطاب ونهج المقاومة وتطوير مسارات بناء القوة بمواجهة الكيان الصهيوني وتهديد وجوده في المنطقة وتطوير قدرتنا على اللعب داخل الكيان الصهيوني وفي ساحته ، وهذه نقطة قوّة لا يجب ولا يمكن أن نتوّقف عنها لأسباب دينية وعقائدية أولاً فضلاً عن كونها سياسية ومصلحية ، ولا يصّح التنازل في أي مسار بناء قوّة أو استكمال تحويط الكيان الصهيوني وتهديده ، فهذه ورقة القوّة الأهّم في حركة المواجهة مع الغرب والأمريكي بالذات . هذه المسألة هي هوية وانتماء وليس عامل من العوامل فحسب واي تخّفف أو تراجع فيها أو مساومة هو تهديد وجودي نختلقه لأنفسنا .
أمّا ثاني النقاط فهي أن نتجنب جّرنا الى صراع بتوقيته هو ، مهما حاول استدراج انفعالات ، اليوم مثلاً حجم الهجوم العنيف على مثلنا وقيمنا وقرآننا ومقدساتنا هذا إن يدّل على شيء فيدّل على غيظهم وحقدهم من تأثير وفاعلية مقدساتنا ، ودليل على أنّ الحركة الصهيونية وداعميها أو من يشاكلها أنهّم في أزمة .
ثالثها ، تجّنب أي صراع أو احتكاك بين أيّ من الدول العربية بما يحّقق الرغبة الأمريكية -الإسرائيلية ، بل المصلحة اليوم تكمن في التطمين والتهدئة والإقناع من موقع القوي والقادر .... وهذا يفترض إجتراح مشروع واقعي لتعاون مصلحي محدّد المعالم بين إيران وبقية الدول العربية لتحقيق مصالح مختلف الأطراف .
ورابعها وهو الأخطر ، تحصين جبهة الداخل وتقوية قدرة الصمود والتحّمل لعبور هذه المرحلة التي قد تستمر لعدة أحوال .
أمّا الممكن القيام به والدفع نحوه فقد يكمن :
- في اعطاء مساحة سياسية أكبر للعراق وتشجيع حكومته للعب دور أكبر في التسويات الممكنة والمحتملة فنحن نحتاج الى بلد عربي يحكي مع العرب ويكون له خصوصية من جهة ويتوافق مع رؤانا من جهة ثانية. وتقديم رؤية أو مسودة لنظام إقليمي من قبل إيران بتعاون ومساعدة روسية صينية ، وهذه لحظتها التاريخية .
- اعداد إيران رؤية لتسوية وتفاوض معقولة بين المتخاصمين وتبريد الساحات وإشراك السعودية في الحل إن في لبنان وسوريا واليمن بدل إخراجها مهزومة ، فالسعودية لم تعد تشكّل خطراً استراتيجياً علينا بعد حرب اليمن وهزيمتها المدّوية وتراجعها في كل ساحات المواجهة ناهيك عن أنّ تحويل محمد بن سلمان السعودية الى نيو سعودية سيكون له تداعيات توهن من قدرة السعودية وتشرذم مجتمعها وانقساماته المملكة تنتقل بين ليلة وضحاها من مكة الى نيو مكةلخ.
- في تحريك الشعوب لا سيّما الأفريقية لطرد السيطرة الغربية والظروف اليوم مؤاتية للإجهاز على ما راكمه الغرب في هذه افريقيا .
- لعب إيران دور المساعد والمساند الاقتصادي للشعوب المتعبة وليس العسكري فحسب ، وهذا يفترض أن تسارع إيران لمعالج شؤونها الإقتصادية أولاً وبسرعة لتتمكن من القيام بهكذا دور ، فالوقت كالسيف في هذه اللحظة التاريخية وهو العامل الأكثر أهمية .
- تطوير أواصر العلاقة مع الجزائر وباكستان ، والإفادة من ظرف الأردن وحاجاته لفتح العلاقات الدبلوماسية معه.
- السعي لكسر قانون قيصر بالواقع والميدان وحماية من يتبنى هذا القرار ، فكما كانت الحرب على سوريا تتعلّق في كون سورية عقدة الوصل العسكرية للمحور فهي أيضاً عقدة الوصل الإقتصادية وقانون قيصر هو الحائل دون الوصل ومّد حلفاء إيران في الاقليم بأسباب الصمود الإقتصادي ، فالأولوية الآن اقتصادية بكل ما للكلمة من معنى ، وانفتاح أسواق دولنا الإسلامية بدءاً من دول محور المقاومة أمر لازم وشرط ضروري .
- وبانتظار كسر الحصار الإقتصادي بقرارات سياسية جدية من دول المحور وفي مقدمهم العراق ولبنان نحتاج لاجتراح طريقة تعاون لمجتمعاتنا وأسواقنا وحلفائنا من خلال صيغ ما تحت السياسي أي اللامركزيات ، كالبلديات والاتحادات والمقامات الدينية ، طريقة تشبه تجربة المجتمع المدني الغربي وشبكة جمعياته العالمية التأثير والخدمات ، أظّن أنّه يمكن إنشاؤها على امتداد الساحة المرتبطة بمحور المقاومة ومن يسانده عالمياً . الغرب لا يمارس فعلاً سياسياً بحتاً في مواجهتنا بل أحياناً كثيرة يلتف لإختراق بيئاتنا والتأثير في سياساتنا من خلال الجمعيات المدنية والخدمات التي يسهل أن تقدمها . يمكن لهيئات العتبات أن تكون مدخلاً لذلك وكذلك عشرات الجمعيات التي يمكن أن ننشئها كمحور لغرض تعزيز التواصل والمساعدة الإجتماعية الإقتصادية المعرفية.
- لا بأس من معاودة جس نبض الأخوان المسلمين بالانفتاح عليهم وفق رؤية محدّدة لا سيّما أنّ مسألة فلسطين والقدس تقدّمت على ما سواها من قضايا أمتنا وأنّ أوباما والسياسة الأمريكية الغربية التي حملت مشروعاً لإختراق حركتهم وزّجهم في أتون لعبة التوازن بعيد اعتلائهم السلطة قد تراجعت . وحيث لا أفترض أنّ الساحة بكلّها مهيّاة لهذا تعاون فلا بأس من اعتماد سياسات تجزيئية في مقاربات الساحات ربطاً بالهدفين المحدّدين : فلسطين وإمكانيات التنمية .
- لم تعد المرحلة تُبنى على تحالف اتجاهات كأن نتحالف مع العروبيين أو القوميين أو الإسلاميين ، كل شيء تبدّل لذلك الأصل أن نتحالف مع كل ساحة بحسب خصوصياتها وبما يضمن الاقتراب أكثر من هدفي فلسطين والتنمية لتجاوز الأزمة الإقتصادية القاسية . عملياً فلا بأس من دراسة ذلك في الساحة اليمنية أو السورية أو العراقية واللبنانية كل على حدة ... نحن نحتاج لما يطمئن ويحقق الاستقرار الاجتماعي بين المكونات لا سيّما أنّ منطقتنا لم تنتقل الى مفهوم المواطن الانسان وكرامته كقيمة لا بل لا زال أهلها ينظرون اليها من زاوية انتماءاتهم الطائفية والاثنية والمذهبية والقبائلية والعرقية ، وأن العنوان الوحيد العابر للانتماءات حتى الساعة هو فلسطين ووجع الشعوب وحاجتها للأمن داخل دولها .
- إنّ تناقضات الأنظمة العربية وتنافساتها التي تبدو أنّها جزءا من سنخيتها وطبيعتها ، كما إنّ طبيعة النظام الدولي وتحولاته الكبرى الجارية ، كلا الأمرين يفرض إبقائنا على مساحة علاقات مفتوحة مع مختلف الأنظمة العربية والإسلامية وعدم اختصار أيّ منها بالآخر ، مع الأولوية للحلفاء بطبيعة الحال ، لكن الآخرين يُفترض أنّ العلاقة معهم محكومة للمصالح المتبادلة وليس بالقيم التي نفترض أنّها الأصل لأنّ غالبيتهم يعيش هواجس وقلق ولا يمكن البناء معه على مبادئ دينية أو قيمية وغيره .