
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}
وما الحياة إلا مثل، كماء أرسل من سماء الرحمة، فاختلط بتراب الأرض، فازدهر بنبات الرجاء، ثم ذبل في حقل الوداع، فتذروه رياح الأيام، فلا يبقى إلا ما صفت به القلوب، وارتقى به الإحسان.
وهكذا يجري العمر، كأنه نهر يتعرج بين صخور المعاناة وسهول الطمأنينة، كل موجة تحمل في طياتها ذكرى عابرة، وكل شاطئ يفتح أبواب الأمل من جديد، لنسير بين أجنحة الحياة، نتنفس عطر الأماني، ونستسلم لنسيم الأقدار، فنعانق السماء بأحلامنا، ونهبط إلى الأرض بماضينا، حيث تبقى القلوب نابضة بحب الحياة رغم كل شيء.
وما الدنيا إلا دوحةٌ يتقلب ظلّها بين حرٍّ وبرد. هي تُلبسنا أثواب البهجة حيناً، ثمّ تُكفّننا بأردية الحزن حيناً آخر. يُعانقنا الزمان بلطفٍ في لحظةٍ، ثمّ يلقي بنا في غياهب الهموم في اللحظة التالية.
ولا يدوم لنا في هذه الدنيا فرح ولا يطول سرور، فالدهر دوار، يبسط جناحيه حينًا ويطويهما أحيانًا، نسير بين أسره وأسره، بين أمل يشرق وخوف يغشي، فلا راحة لنا إلا على ضفاف الخلود حيث الأمان والسكون، وحيث تسكن الأرواح وتستقر القلوب في حضن الأبد الحنون.
وهذه الدنيا، بألوانها الزاهية وأحلامها البراقة، ما هي إلا سراب يغر الماشي فيه، وخيال يبهج العابر له. هي زينة زائلة، وزهرة ذابلة، وريح عابرة. لا تبقى على حال، ولا تدوم على شأن. كم من نفس قد غرّتها بهجتها، وكم من قلب قد علّق بها آماله، ثم جاءت الرياح فتذرو كل أمل، وتبدد كل حلم، وكأن ما كان لم يكن.
إن الناس في الدنيا بين مطلق من همومه وأسرى لأحزانه، يعبرون في هذه الحياة كمن يجتاز نهرًا عاتيًا، تارة ترفعهم الأمواج إلى أعلى، وتارة تهوي بهم إلى أسفل، فلا قرار لهم ولا راحة إلا حين يرسو بهم مركب الحياة على شاطئ الأبد.
كما تُرسم الحياةُ بريشة القدر بألوانٍ مُتباينةٍ، تمضي بنا بين الأحلامِ الزاهيةِ والآلامِ الكامنةِ، فتارةً تَنبثقُ من بين الأفق شمسُ البِشارة، تُنير القلوب ببشائر الوصالِ، وتارةً تغرُبُ في أفقِ الفقدِ غيابُ السعادة، فتُظلِمُ الأرواحَ بحزنِ الانفصال، كأنَّ الزمن بين فرح يبزُغُ ونكبة تأفلُ، يسيرُ متقلِّباً بين وعد اللقاءِ ووعيد الفراق.
فالناسُ في هذه الحياة ركّابُ سفينةٍ هائمةٍ، تارةً تُبحر بهم في بحارٍ هادئةٍ، وتارةً تغرقهم في لججٍ عاتيةٍ، لا يعلمون متى تكون لهم الراحة، ولا أين يُرسى بهم المرفأ الأخير. يُسيرون في دروبها بلا هدى، ويجتازون أهوالها بلا سندٍ، فما لهم فيها من ثابتٍ، ولا لهم فيها من قرارٍ، حتى إذا بلغوا شاطئ الأبد، انقضت رحلتهم، وانتهت أحزانهم.
وإن كانت الدنيا دار تبدل وتقلب، فإن من عرف الله حق معرفته، أدرك أن وراء هذا الظاهر المتقلب، باطن ساكن هادئ، من تذوق حلاوة الإيمان في قلبه، صارت له الدنيا جنة طمأنينة وراحة، لا تهزه عواصفها، ولا تزلزله نوائبها.
فمن جعل ذكر الله زاده، وسكونه قاعدته، انقلبت عليه الدنيا سرابا من طمأنينة، وجنة من سلام. فالباطن الذي يراه أهل الله ليس كالظاهر الذي يراه أهل الغفلة، فباطن الدنيا لمن استقر قلبه على ذكر الله هو منبع طمأنينة وأمن، حيث إن "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، فتتحول الدنيا من ساحة اضطراب وخوف إلى واحة سكينة وسلام.
فمن استمسك بحبل الله المتين، صار له الفناء بقاء، والعناء عافية، يبدل الله خوفه أمانا، وحزنه سرورا، فيعيش في الدنيا قلبا مطمئنا، وإن كان ظاهرها قلقا مضطربا. فأساس الطمأنينة هو الإيمان، وأساس السلام هو اليقين، فمن عرف الله، أزهرت حياته في كل حين، وإن كان ظاهرها خريفا، فباطنها ربيع دائم.
فكما أن الزمان يبدل ظاهره بين ضحك وبكاء، فإن من استنار قلبه بنور الله، رأى في كل حال جمالا، وفي كل تبدل استقرارا، فما الدنيا عنده إلا دار عبور إلى دار قرار، وما اضطرابها إلا بساط طمأنينة لمن أقبل على الله بقلب مطمئن.
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية والباحث الایراني في الدراسات القرآنية "آية الله الشيخ أحمد مبلغي"
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: