ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ شَكى ضُرَّهُ إِلى غَيرِ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّما شَكَى اللّهَ".
حياتنا قارئي الكريم لا تمضي على منوال واحد، يتوارد فيها علينا اليُسر والعُسر، والسرور والحزن، والصحَّة والمرض، نتقدم فيها تارة ونتأخَّر أخرى، ننجح مرة ونفشل مرة، فهي لا تستوي على حال من الأحوال، ولئن كنا في حال اليُسر والسرور والصحَّة والغِنى والنجاح، ينتابنا الشعور بالرضا والراحة والقوة والقدرة، فإننا في حال العُسر والحزن والفقد والمرض والفشل والخسارة ينتابنا الشعور بالضَّعف والضغط النفسي والتوتر والقلق، فنحتاج إلى الدعم النفسي، فنلجأ إلى من نعتقد أنه قادر على ذلك لنشكو إليه همومنا وشجوننا، ونُفرِّغ بين يديه ما يعتمل في نفوسنا ويضغط على صدورنا.
وتكمن أهمية الشكوى في أنها نوع من التعبير عن الألم النفسي والضغوط الداخلية التي غالباً ما تصيبنا بالوَهَن والضَّعف، وتساهم في التخفيف من تلك الضغوط، وقد تُزيلها إن وجدنا شخصاً أميناً ناصحاً يستمع إلينا، ويتعاطف معنا، ويفكر معنا، وينصحنا.
والشكوى واحد من السُبل التي يعبّر بها الإنسان عمّا يختلج في نفسه من ضغوط وهموم، حيث يُعدُّ الإفصاح عمّا يعتمل في النفس خطوة أولى نحو العلاج النفسي والمعنوي، ويؤثِّر ذلك إيجاباً إذا كان التوجه إلى الله وحده، وطلب العون منه، ويتجلّى ذلك في العبادة، والذكر والدعاء بوجه خاص، وحين نراجع الأدعية الشريفة التي وصلتنا عن رسول الله (ص) وآله الأطهار (ع) نجد أن معظمها ينطوي على شكوى الداعي إلى الله تعالى، ويكفي القارئ الكريم أن يراجع دعاء كميل الشريف، أو دعاء أبي حمزة الثمالي، أو أدعية الصحيفة السجَّادية فسيجد أنها تشتمل على شكوى العبد إلى الله من جهة، وسؤاله منه العون والمدد والتوفيق والتسديد من جهة أخرى، فضلا عمَّا تزخر به من ثراء عَقدي وقِيَمي، ولذلك يقوم العبد عن الدعاء وهو يشعر بالراحة النفسية، والثقة الكاملة بأن الله تعالى قد سمع شكواه، وسيجيبه في اللحظة المناسبة له.
إن المؤمن أول ما يلجأ إلى الله تعالى، يناجيه، ويسأله، ويبث إليه شكواه، والله تعالى لا يُغلِق الأبواب بينه وبين عباده، لا يمَلَّ منهم ولوا بقوا يشكون إليه مدى دهرهم، وإنه ليستمع إليهم، ويجيبهم، بل يجعل من شكايتهم تلك عبادة تقرِّبهم إليه، وتُزلفهم لديه، وإنه تعالى لَيَعلم ما بهم، ويعاملهم برأفته ورحمته، وييسر لهم كل عسير من أمورهم، ويخرجهم من كل ضيق، من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، وما من شخص لجأ إلى الله تعالى فخيَّب الله ظَنَّه به.
إن يعقوب النبي (ع) شكى بثَّه وحُزنه إلى الله تعالى ولم يشكُ لأحدٍ سواه، فقال: ... إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿يوسف:86﴾ لقد قال أولاد يعقوب لأبيهم بعد عودتهم من مصر: إنك لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تُبتلى بمرض أو تموت من الغم، فأجابهم قائلاً: لا تلومونى، وأنا لا أَشْكو إليكم حزني ولا إلى أحد من الخلق، بل أشكو ذلك إلى الله وحده، وفي هذه الشكوى إلى الله من يعقوب (ع) يتجلّى الشعور بحقيقة الألوهية في قلبه الموصول بالله سبحانه، والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه مهما بلغت إلا أن يتوجَّه إلى الله موقناً أنه سيجيبه ولا يخذله، وقد استجاب له، فجمع شمله، وأقام في مصر عزيزا كريماً في رعاية ولده يوسف عزيزها وسيِّدها.
وإن أيوب النبي (ع) شكى ضُرَّه إلى الله، "...إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴿الأنبياء:83﴾ ولم يزد على ذلك شيئاً، فاستجاب الله له، فكشف ما به من ضُرٍّ، وآتاه أهله ومثلهم معهم، رحمة من عنده، وذكرى للعابدين.
فأما الشكوى إلى الخلق، إلى الناس، فيجب أن تكون إلى المؤمن الصالح التقي الناصح، وليس لأي شخص، فلو ذهب الشخص إلى معالج نفسي فيجب أن يختار المعالج الصالح المؤمن العارف بالدين عقيدة وشريعة والملتزم بهما، كي لا يشذَّ بالشاكي إليه عن الطريق الحق، وإنما أنبِّه إلى هذا لأنني أعلم عن حالات كثيرة انحرفت عن مسارها بسبب اللجوء إلى معالجين ينتمون إلى مدارس تتبنى آراءً تتناقض مع رؤية الدين للإنسان ودوره في الحياة.
هنا تأتي معادلة: "مَنْ شَكى ضُرَّهُ إِلى غَيرِ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّما شَكَى اللّهَ" فإن من يشكو لغير عارف بالله، قد يُضِلُّه ويحرفه، فيضرُّه بدل أن ينفعه، فالكافر أو المنافق لا يُرتجى منه نصيحة صادقة ولا عَون حقيقي، وقد يستغل الفرصة لتشجيعه على المعاصي، أو النفور من الدين، وقد يجرِّئه على اتهام الله بالظلم له والتقصير معه، فيدعوه ذلك إلى القطيعة مع الله تعالى.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي