ویتبجح العدو الصهیونی أمام شعبه وفی وسائل الإعلام، أنه دمّر أکثر من ثلثی مخزون المقاومة الفلسطینیة من الصواریخ والأسلحة، وأنه اکتشف ودمّر أغلب الأنفاق المؤدیة إلى البلدات الإسرائیلیة، وأن البنیة التحتیة لفصائل المقاومة قد تضررت کثیراً، وأنها تلقت ضربةً موجعةً، طالت مخازن السلاح، ومنصات الصواریخ، والعقول المصنعة ومطلقیها، وأنه أصبح من الصعب علیها أن تستعید عافیتها بسهولة، أو أن ترمم قدراتها بسرعة، کما یستحیل علیها فی ظل إغلاق الأنفاق من الجانب المصری أن تعید ملأ مخازنها، ولهذا فإن على المجتمع الدولی أن یبادر إلى اجتماعٍ مسؤول للتأکید على نزع سلاح المقاومة الفلسطینیة، وجعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، قبل المباشرة فی مشاریع إعادة إعماره، وفتح معابره، وتحسین ظروفه الاقتصادیة، لئلا تتکرر مأساة السکان مرةً أخرى.
ویعلم العدو الصهیونی أنه یکذب على شعبه ویخدعه، وأنه یخفی عنه الحقیقة کلها أو بعضها، أو یقسطها علیه على مراحل، لئلا یصدم ویحبط، أو یخیب فی حکومته رجاؤه، ویفقد فی جیش کیانه أمله، کما أنه یفرض على وسائل الإعلام رقابةً شدیدةً، لئلا تسرب خبراً، أو تؤکد نبأً، وهو إذ یکذب على شعبه، فإنه لا یصدق نفسه، وإنما یحاول أن یطمئن شعبه، ویمنی نفسه، بأنه قد انتصر وحقق أهدافه، وأنه یمضی وفق الخطة التی وضعها، وأن بنیة المقاومة فی قطاع غزة قد تضررت، وأن الخطر المتوقع منها قد تراجع.
إلا أن قادة جیش العدو لا یستطیعون إخفاء قلقهم، أو إنکار خوفهم مما لقیه جیشهم على أیدی المقاومة، وأنهم عندما یطمئنون الشارع الإسرائیلی فإنهم یتطلعون إلیه لیمنحهم المزید من الصبر والاحتمال، وأن یکون مهیأً لتلقی أی خبر، وتوقع أی نتیجة، فهم یواجهون صعوبة کبیرة فی مواجهة المقاومة الفلسطینیة، التی یبدو أنها مدربة ومهیأة، وأنها قد استعدت جیداً لهذه المواجهة، وأنه لدیها ما تفاجئ به الجیش، الذی لم یکن لدیه الخبرة الکافیة على خوض حروب الأنفاق، فضلاً عن فنون حرب العصابات التی أتقنتها المقاومة، بتکتیکاتٍ جدیدة، وأسلحةٍ متطورةٍ، خطیرة وفتاکة.
إنها الحرب الرابعة التی یشنها العدو الإسرائیلی على قطاع غزة فی غضون أقل من عشر سنواتٍ، وکان أرئیل شارون قد بدأها بعنفٍ شدیدٍ، فجزأ القطاع، وعزله عن بعضه، ومنع تواصل سکانه، ودک مدینة رفح، وحفر أطرافها، وجعل عالیها سافلها، ودمر بلدات خانیونس وعاث فیها فساداً، ونصب على طرقاتها الحواجز، وواصل الحرب من بعده أیهود أولمرت ومن جاء بعده، ولکن هذه الحروب وقد کانت جمیعها قاسیة وصعبة، واستخدم العدو فیها کل أسلحته المدمرة، ولم یدخر جهداً فی القسوة على السکان، لم تستطع أن تضع حداً للمقاومة، أو أن تنهی روح التحدی لدى السکان، بل إن کل جیلٍ کان یسلم الرایة لجیلٍ أشد وأقوى، وأصلب وأکثر ثباتاً.
ذلک لیعلم العدو الصهیونی وأقطاب حکومته المتشددة المتطرفة، أن الفلسطینیین لن یتخلوا عن المقاومة، ولن یقبلوا بالضعف، ولن یستسلموا لمحاولات القهر، وأن مساعیه لتجریدهم من سلاحهم، والقضاء على روح المقاومة عندهم ستبوء دوماً بالفشل، ولن تؤدی النتیجة المرجوة، ولن تحقق لهم الأمل المنشود، ولن یکون من بین الفلسطینیین من یقبل بموت المقاومة، ویسلم بعجزه أمام قوة العدو، ویقبل منه لضعفه ما کان یرفضه دوماً، ذلک أن المقاومة روحٌ تسری، وعقیدة تسکن، ودماءٌ تجری، ووعیٌ کامن، وإرادة باقیة، لا یمکن للقوة العمیاء أن تقضی علیها، ولا للعنف الأهوج أن ینهی وجودها.
السلاح ضرورة، ولعله کان العامل الأهم فی هذه الحرب، إذ فاجأ المقاومون العدو بأنهم کانوا على أعلى درجات الجاهزیة والاستعداد، وأنهم قد تدربوا جیداً، واستعدوا کثیراً، وامتلکوا من السلاح ما لم یکن یتوقعه، وصنعوا بأیدیهم ما عجزوا عن إدخاله، وقاتلوه ببسالةٍ منقطعة النظیر، وشجاعةٍ عزَّ أن تکون لغیرهم، وأنهم کانوا یخرجون له من جوف الأرض فجأة، بهیئاتٍ مخیفة، وأسلحةٍ قاتلة، ووجوهٍ صلبةٍ، وعیونٍ واثقةٍ، وخطىً ثابتة، وکأنهم أشباحٌ تنشق عنهم الأرض تباعاً، ثم تعود فتبلعهم من جدید، ولکن بعد أن ینفذوا بدقةٍ تامةٍ، ویقینٍ بالنجاح، ما قد خرجوا من أجله.
لکن ما خفی على العدو الإسرائیلی وغیره، أن مقاومة الفلسطینیین فی قطاع غزة، بکل أشکالها وأطیافها، وبشعبها الحاضن الصابر العظیم، ما کانت سلاحاً فقط، ولا عتاداً فتاکاً، ولا أنفاقاً جدیدةً، بل کانت قبل هذا کله إرادةً من حدید، وتصمیماً لا یلین، وعزماً جدیداً لا یعرف المستحیل، ویقیناً بالنصر واثقاً لا یتزعزع، وثباتاً على الأهداف لا یهتز ولا یتردد، وصبراً عجیباً یصنع المعجزات.
إنها إرادة الشعب الذی صنع السلاح، وحفر الأنفاق، وواصل إطلاق الصواریخ، واجتاز الحدود، والتف خلف خطوط النار، واقتحم المعسکرات، وتسلل إلى الثکنات، واشتبک مع القواعد والحراسات، وقاتل العدو من نقطة الصفر، ونال من هیبة الجیش والشعب، وهزأ الحکومة والقادة، وفضح الأنظمة والسادة، وکشف زیف الجمهوریات الممالک، وبین غدر الرؤساء والملوک، إنه لشعبٌ قادرٌ دوماً أن یکون الأقوى بإرادته قبل سلاحه، وبیقینه قبل عتاده، وبصدقه وإخلاصه قبل صواریخه ومعداته.
فلا یفرح العدو وهو الکاذب، ولا ینتشی وهو الخاسر، ولا ینفش ریشه وهو المنتوف ریشه، والمهزوم جیشه، والراحلة حکومته، والمحاکمة قیادته، ذلک أن المقاومة أقسمت أن تنتصر، وستنتصر دوماً بإذن الله، وسیرون منها ما لا یتوقعون، وأکثر مما کانوا یظنون.
بقلم الباحث والکاتب الفلسطینی "مصطفى یوسف اللداوی"