ایکنا

IQNA

القضية الفلسطينية والوعي الشّقيّ

13:11 - November 27, 2019
رمز الخبر: 3474504
الرباط ـ إکنا: المقاومة الفلسطينية هي الطريق الطبيعي لإنتاج الحلّ الحقيقي، فالتسويات التي تستمدّ قيمتها من الهزيمة المُمأسسة عربيّاً لن تنتج سلاماً، بل هي عنصر إضافي للتأزيم، وبه تستمر محنة الشعب الفلسطيني وأزمة المجال السياسي العربي وعدم استقرار الأمن الدّولي.

سأسعى هنا لتسليط الضوء بشكل أكبر على بعض الومضات التي أرسلتها في اللقاء الوطني المُقام في نادي المحامين في 13/10/2019 بالرباط، في إطار التّجمع العربي والإسلامي، وبمبادرة أتحمّل فيها المسؤولية كاملة باعتبار أنّ لا شيء يثنينا عن الموقف والمبادرة حين تكون في قضية عادلة كالقضية الفلسطينية التي تعلّمنا السياسة في سياقها، وحيث كان اللقاء ناجحا من حيث المضمون الثقيل لأفكاره وبالمشاركين الذي أبوا إلاّ أن يشاركوننا هذا الانشغال بشجاعة من أجل الحقيقة والمعرفة، وحيث ارتأيت كمدير لهذه الجلسة أن أتنازل عن مداخلتي وأكتفي بتلك الومضات، فقد كان من الضروري أن نطوّرها إلى رؤية تصلح أرضية لأنطولوجيا سياسية حاضنة للوعيّ بالقضية الفلسطينية من منظور أوسع وعمق أكبر.
 

وعلينا قبل كلّ ذلك أن نستعرض الأسباب التي ذهبت بنا هذا المبذهب لكي لا يكون هناك تكرار، وقد كان هذا هو مضمون مقدمة الجلسة حيث أشرت إلى أنّ لقاءنا هذا لم يكن لقاء لتكرار ما بات محفوظا لدى العامّة والخاصّة بل الهدف إنتاج قيمة مضافة بخصوص القضية الفلسطينية. فلقد لاحظنا أنّ ما تبقّى اليوم من خطاب لم يعد مقنعا لشريحة واسعة تتعرّض يوميا لقصف منهجي يستهدف وعيها بهذه القضية، وبأنّ عملية تجديد الخطاب تكاد تتوقّف في حين أنّ هناك خطاب مغالط يجدد نفسه باستمرار في إطار محاولة دقيقة لتصفية القضية الفلسطينية في منطقة الوعي. وعلى هذا الأساس ما الواجب معرفته، وما الواجب عمله؟ سيكون السؤال الكانطي مُنتجا حين نقتحم به مجال إنتاج الرؤية السياسية والجيوسياسية وهذا يجعلنا نؤكّد على أنّ هناك من يسعى لشكل جديد من "العلمنة" غريب يتعلّق بالفصل بين السياسة والفلسفة، لصالح سياسة عارية تنتهي في نهاية المطاف إلى سياسوية ستنتج لنا كلّ هذا الجيل من المغالطة وقد تنحدر بالقضايا العادلة إلى مستويات من القضايا التي تحوم حولها تآويل فاسدة ومتاجر ملتبسة، فهذا الفصل التّعسّفي هو واحدة من عناصر البؤس الذي تواجهه السياسة في ربوعنا العربي.

الومضة الأولى: من أجل تأسيس لأنطولوجيا سياسية عربية

تحضر القضية الفلسطينية في الوجدان العربي لكن أي تواجد لها موازي على صعيد الوعي؟ ولا شكّ أنّه لا يكفي بأن تسكن القضية الوجدان فقط بل ينبغي أن تسكن الوعي والفكر والخطط والثقافة، فإذا كان ولا بدّ أن تسكن هذه القضية الوجدان وتصبح القضية المركزية ولها الأولوية في الهمّ والإنشغال العربي فهل هذا يتناسب مع وجودها كقضية أنطولوجية تحدد المكانة الرمزية للقضية الفلسطينية وهي وحدها تملك أن تنتج باستمرار المعنى والوضوح الذي يرفد النظرية بالفكر ويرفد العمل بالمواقف المقنعة.
 

وسنذكّر بهيدغر وهو الذي سعى لنسف الميتافيزقا الغربية ومحاولة إنتاج أنطولوجيا لم تغفل البعد السياسي حيث احتلّ الهمّ الجيو-سياسي مكانة كبيرة في بناء هذه الأنطولوجيا وحيث لم يفصل بين مشاغل الموجود و"الدازاين" والموقف الذي يتعلق بالمصير الجيوسياسي لألمانيا وأوربا. ولقد حاول بيير بورديو أن يفكّك هذا التموضع الهيدغيري في حقول شتّى ولم يجد في الموقف الهيدغيري في أنطولوجياه السياسية ما يعيب عدم احترامه للمرجعيات الكبرى، أي احترام الاختصاص وجودة الخطاب الفلسفي ولكنه حاول فقط أن يحيله إلى مفهوم الهابتوس ومفهوم إعادة الإنتاج ليجعله نتاجا لهابيتوس مركّب يعيد نفسه هيدغيريّا. ولا شكّ أن بورديو هنا لا يفعل سوى أن يصف الأمر لأنّ الهابتوس - والمعذرة لبورديو - لا يمكن إلاّ أن يكون خليطا مركّبا، لا يوجد هابتوس بسيط، وربما مع إدغار موران الذي يدرك تماما بأن المستقبل - أي مستقبل - لا يمرّ إلاّ عبر المقاومة، هو مدرك لتعقّد الواقع وفكرة الكومبليكسوس. وعلينا إذن إن نحن رمنا التحليل، أن نحلل المركب - ولا تحليل إلا للمركب - ولكن التبسيط النظري هو نتيجة تبدأ من تعقّد الواقع وتركب ظاهراته. وعليه، فإنّ سؤال ما العمل ينطلق من مخرجات نظرية تراعي تعقّد الواقع وتنتهي إلى تبسيط الموقف.
 

ولم يجعل هيدغر من محاولته الأنطولوجية هروبا من الواقع بل جعلها تأسيسا لواقع أكثر حماسة لإنجاز الموقف السياسي التّحرّري، لكن السؤال هنا هل استطاع العرب حتى اليوم تأسيس أنطولوجيا سياسية بديلة؟ لا شكّ أن هيدغر هو نفسه لم يكمل هذه الأنطولوجيا بل إنّ الغرب نفسه سلك فلسفة أخرى أكثر نزيفا إمبرياليا تدين لفلسفة براغماتية تقوم على الوعي بالمصلحة والقوة والاحتلال والميز العنصري. ولا شكّ أنّ القضية الفلسطينية هي في نهاية المطاف واحدة من تركة استعمارية وحصيلة وعد سياسي ينتهك التّاريخ وفلسفته.
 

ولم يبن العرب أنطولوجيا سياسية حقيقية وبالتّالي أي معنى أن ترقى قضية ما إلى مستوى القضية المركزية في غياب أنطولوجيا سياسية حقيقية؟ فإذن هي دعوة لبناء وتسيس هذه الأنطولوجيا دون أن نسأل من وكيف وبناء على أي أساس يمكن أن تُبنى هذه الأنطولوجيا؟

الومضة الثانية: القضية الفلسطينية والوعي الجيو-سياسي

لا تنفصل الجغرافيا عن التّاريخ والعكس صحيح وأصحّ، وكلاهما لا يستغني عن أنطولوجيا تقيم صُلب الوعي والأرض والإنسان. ولقد لاحظنا جميعا كيف أزاح ما سمّيّ بالربيع العربي نفسه القضية الفلسطينية من الواجهة لتظهر أولويات أخرى، حيث كانت هذه الإزاحة مؤشّرا على التباس الغايات التي لم يعد أحد يشكّ في مآلاتها، حيث أنتجت من الضجيج ما علا على صوت فلسطين، والحقيقة أنّ كل ذلك يعود لتراجع وغياب الوعي الجيو- سياسي بقضية إن هي احتلت مركزية الوعي فلأسباب سنتطرق إليها لاحقا. إنّ تراجع الوعي بالقضية الفلسطينية جزء منه يعود إلى تراجع الوعي الجيوسياسي، وعلى أساسه أصبحت القضية الفلسطينية تتزاحم مع الأمن القومي للدول العربية وهو ما يمثل نكسة أخرى.

الومضة الثالثة: القضية الفلسطينية والوعي الشّقيّ

لقد تمكّنت الهزيمة من العقل العربي واستقرت في بنيته العميقة ثم سرعان ما أنتجت وعيّا شقيّا، ولكن هذا الوعي الشقي سيتجلّى في صورتين:

- وجه يجسّده عبيد المنزل، الوعي الذي يتماهى مع أطاريح وأهداف المحتلّ، وجه يتحدّث لغة المحتل ويزيد عليها وهم طلائع التطبيع.
- وجه تمثله حالة دونكيشوت، الذي سيحافظ على التّحدّي لكن بشكل ارتدادي حيث يقوده الإحباط وخيبة الأمل إلى أن يصبح مناهضا للعدالة التي دافع عنها في البداية باستماتة إلى حدّ مقارعة طواحين الهواء.
 

ولاشكّ أنّ الإمبريالية والاحتلال لا يمكن أن يكرّس الاحتلال إلاّ عبر الوعي الشقي، فلقد انتهت سنوات الإحتلال بإنتاج أفظع أشكال الوعي الشقي بوجهيه، بحيث إنّ قضايا كثيرة كالتطبيع وصولا إلى صفقة القرن ما هي إلاّ نتيجة لهذا الوعي الذي ينتج حالة عبيد المنزل تارة وحالة دونكيشوت تارة أخرى.

الومضة الرابعة: القضية الفلسطينية الوعي الزائف

لا شكّ أنّ الوعي الزائف قد يكون نتاجا للوعي الشّقي لكن ثمة أشكالا من هذا الوعي لها مساراتها الخاصة وتتعلّق بانقطاع مبكر بين المعرفة والأيديولوجيا، هذه الأخير التي قد تصبح نظرية للعمل فارغة من مضمون معرفي يجدد زواياها ويساعدها على الإنبعاث. فمن مهلكات الأيديولوجيا نهوضها بعيدا عن المعرفة ودورانها في مفردات وتكرارات سرعان ما تتكسّر على تجدّد مغالطات الخطاب النّقيض، فتصبح خطابا غير مناسب لتاريخانية الحدث كما تفرضه معادلة الصّراع. وأيديولوجيا مثل هذه تتحوّل ككل دواء فقد جودته وتقادم وفسد ويصبح لها فعل عكسي. وسنجد أنّ جزء من حالات التطبيع الانفعالية في مجتمعاتنا مردّها إلى ردود فعل على أيديولوجيا فقدت قدرتها على الإقناع.
 

وسوف نواجه من الناحية الأخرى عددا من المغالطات التي أصبح لها رواج في الساحات العربية وأصبح لها عصائب وفرق تعيد إنتاجها بنوع من التسطيح في محاولة للتشويش على صفاء القضية العادلة، ويمكن أن نسرد عيّنات من تلك المغالطات ونقذف بها فورا إلى مزبلة الأفكار الغبية التي تتربّص بالوعي متى غابت المعرفة وبقيت الأيديولوجيا وحدها خاوية الوفاض، وسنذكر هذه المغالطات على سبيل المثال لا الحصر:

1 - مغالطة: فلسطين لم تكن دولة

لم تكن فلسطين دولة بالمعنى الذي تسمح به لعبة الأمم وخريطة سايكس بيكو التي تمّت على حساب فلسطين والتي كانت تتمتع بإدارة ذاتية كإيالة عثمانية، لكنها كانت فلسطين بحدودها وشعبها وثقافتها المشتركة وكان من يعيش هناك يدرك مسبقا أنّ هذا كيان فلسطيني قبل وعد بلفور وتنفيذ مخطط هرتزل وعملية الترنسفير والترنسفير المعكوس أي تهجير الفلسطينيين بالقسر خارج فلسطين وتهجير يهود العالم إلى فلسطين السليبة. ولو سلمنا بهذا الرأي الغبيّ فهذا يعني أن نسلم بأنه لا دولة كانت يومها إيالة عثمانية لها الحق أن تدعي أنها دولة اليوم ، ولكان الاستعمار الفرنسي والبريطاني يتعلل بهذه الفكرة المغالطة نفسها. لقد كانت فلسطين أرضا معروفة حدودها التاريخية ولها شعب تجمع بينه ثقافة مشتركة ليس فقط المسلمون والمسيحيون بل حتى اليهود الأصليون وليس المستوطنون كانوا جزء من فلسطين التاريخية قبل الانقلاب الصهيوني على فكرة اللاّدولة اليهودية باعتبار أنّ العقيدة اليهودية هي عقيدة اللاّدولة وأنّ مجرد التفكير في الدولة ناهيك عن أن تكون هي فلسطين أو أرض مغتصبة هو هرطقة مرفوضة عقديا من داخل التعاليم نفسها، حتى التورات لا يمنح هذا الحقّ.
 

ثم إنّ وعد بلفور خرق الكيان التاريخي لفلسطين وفرض دولة دخيلة وهذا يناقض حتى مبدأ تقرير المصير. إنّ الدولة في القانون الدولي تتألف من شعب وأرض ونظام سياسي حيث تمارس المجموعة بناء على هذا النظام المتفق عليه نشاطها، وسيكون من الطبيعي أنّ الإدارة الذاتية للفلسطينيين حينما انكمش النفوذ العثماني أن تؤول تلقائيا إلى دولة، ولكن الإستعمار منح دولة لغير الفلسطينيين مع أنّ المستعمر ووعده باطل فهو ليس صاحب الأرض ولا يملك أن يحوّل إدارة الكيان المحتلّ لعصابات تنضوي تحت فكرة عنصرية.

2 - الفلسطينيون باعوا أرضهم

فرية أخرى تناقض القانون الدولي وتقوم على الجهل بمفهوم الدولة والكيان حيث لو باع الإنسان أرضه وفق قانون العقار فهل هذا يعني شرعية احتلالها سياسيا؟ ثمّة فرق بين بيع العقار وبين بيع السيادة أو التنازل عنها، والفلسطيني مزارع قديم ولا زال متصلا بأرضه معتزا بها وقد تغنى بها شعرا وبمنتوجها، فالمزارع لا يبيع أرضه إطلاقا، ولقد كانت تلك أسوأ مغالطة يرددها عبيد المنزل الذين فقدوا ملكة الإدراك والتمييز.

3 - الفلسطينيون خانوا قضيتهم

لم يخن الفلسطينيون قضيتهم، وإذا رأينا حالات فردية تتقاذفها الأمواج هنا وهناك وإذا رأينا وضعيات وحالات لا ترقى إلى المثال العظيم للنّضال والكفاح فهذا لا يحجب أنّ هذا الشعب العظيم استطاع أن يوقف الزّمن الفلسطيني على أساس الكفاح بالعمل الفدائي والعصيان وأورث همّة المقاومة للأطفال الذين قاوموا الاحتلال بالحجارة ولا زالوا يفعلون. لقد كان الفلسطيني رمزا للكفاح، وهذا الشعب الذي تعرّض للاحتلال وفرض عليه النزوح ولا زال يتشبث بالأمل أحبط كل أساليب تصفية القضية الفلسطينية حتى في الأوقات الصعبة، هذا الشعب هو أكثر الشعوب وفاء للأرض ووفاء لقضيته، وقد خاض أطول ملحمة في الكفاح الوطني لم تسكن يوما واحدا

4 - الأقطار أوّلاً

حين نقول فلسطين مركزية فهذا لا يتناقض مع جملة الأولويات الوطنية للدول والمجتمعات، هذا لا يعني حين نقول فلسطين أولا أن لا نقوم بواجباتنا وأولوياتنا بل إنّ أولوياتنا داخل بلازما إقليمية مرتهنة لمخرجات سايكس بيكو تجعل نّ الموقف الصحيح اعتبار فلسطين عمقا استراتيجيا وقضية من قضايا الأمن القومي لكل الدول العربية، ذلك لأنّ تصفية هذه القضية ستكون لها نتائج جيوسياسية وخيمة ستنتهي بتقسيم الدول العربية وتمكين كيان استعماري متحكما في أمن وتنمية هذا العالم ومنتجا لأزمات لا نهاية لها، فليس من قبيل الـ"شطارة" الجيوستراتيجية المراهنة على كيان هو نفسه لا ينظر إلى المستقبل نظرة واضحة وهو رهينة أيضا لمعادلة دولية في عالم وجب النظر إليه باعتباره متغيّرا ومرتهنا لمكر التاريخ الذي يتجاوز الأقطاب والقوى العظمى نفسها.
 

ويستأنس المطبّعون عادة بهذه المغالطات، وينسجون حولها خطابا مهجوسا ومضمّخا بالجهل السياسي والتّاريخي وروح القوانين، ولكننا لا نمنح حالات التطبيع الفردية أي وعد بالانتصار لأنها مبنية على خفّة الرأي واهتزاز المعايير والمصالح الغامضة وهي فاشلة لأنها لا تنفع لا المطبع ولا المحتل لسبب بسيط وهي أنّ الشعب الفلسطيني رافض لكل أشكال التسويات غير العادلة وهو موقف لم يعد قابلا للتزييف، خصوصا إذا لم ندرس الأسباب الحقيقية للتطبيع من داخل أزمة الوعي وكنتاج طبيعي للوعي الشقي بوجهيه.
 

هكذا ننظر إلى القضية الفلسطينية ونعتبر أنّ المقاومة هي الطريق الطبيعي لإنتاج الحلّ الحقيقي، فالتسويات التي تستمدّ قيمتها من الهزيمة المُمأسسة عربيّا لن تنتج سلاما، بل هي عنصر إضافي للتأزيم، وبه تستمر محنة الشعب الفلسطيني وأزمة المجال السياسي العربي وعدم استقرار الأمن الدّولي.

بقلم المفكر والباحث والمحلل السياسي المغربي ادريس هاني

captcha