ایکنا

IQNA

مقدمة في السُّنن الإجتماعية القرآنية

17:01 - November 21, 2021
رمز الخبر: 3483463
سعت العلوم الاجتماعية المعاصرة منذ تأسيسها الى اكتشاف القوانين اليقينية والعالمية التي تحكم المجتمعات البشرية، سواء في نظامها العام (استقرارها) أو تغيرها الاجتماعي (ديناميكيتها)، لكن النتائج الإجمالية كانت مخيبة للآمال، خصوصاً بالمقارنة مع نتائج الإكتشافات الباهرة في العلوم الطبيعية والفيزيائية.

ما المخرج إذن؟ وكيف نتخطى قيود العلوم الإجتماعية الحديثة في المساهمة في علاج المشكلات الاجتماعية والإقتصادية والسياسية والبيئية والأسرية والصحية، لدرجة أن أحد العلماء الغربيين (Lee McInytre 2006) يرى بأن حالة العلوم الاجتماعية المعاصرة تشبه حالياً حالة العلوم الطبيعية في عصور الظلام الغربية الوسطى. وهل يدعم الفكر الإسلامي منهجية العلم التجريبي الحديث القائم على المشاهدة والتجربة والاستقراء؟

لنتأمل في الآيات القرآنية أدناه:
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (النساء:123)
وَمَا أَكْثَرُ الناسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (يوسف: (103
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿١٤ فاطر﴾
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا (العنكبوت: 20 والروم: 42 والنمل: 69)

الآيات الثلاثة الأولى هي أمثلة بارزة على السُّنن الإنسانية والاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتحول: الآية الأولى تضع الإنسان الفرد أمام مسؤولية اختياراته أيا كان موقعه، في القطاع العائلي أو الخاص أو العام أو الخيري، حيث لا فرار من العدالة دنيا وآخرة مهما طال الأمد!. والآية الثانية تضع قانوناً في الوجود البشرية وعلاقته بالإيمان. هي سنن اجتماعية لأنها تتحدث عن الوجود والواقع البشري الموضوعي، وهي تتسم بالاطّراد والموضوعية تماما كما هو الحال مع القوانين الكونية في عالم الطبيعة.

لكن ما الفروقات بين الآيات الأربعة أعلاه؟ الآيات الثلاثة الأولى تنتمي الى عالم الحقائق (أي عالم الواقع وما هو كائن) في حين أن الآية الرابعة تنتمي الى عالم القيم والتوجيهات المعيارية (أي عالم الواجب وما يجب ان يكون). إذ يشمل النص القرآني، كما أوضحت في مقال سابق، نوعان من الأحكام: (1) الأحكام الواقعية (الحقائق) التي تُعنى ب”ما هو كائن” و(2) الأحكام التشريعية (المعايير) التي تُعنى ب “ما يجب أن يكون”.

التمييز بين الحقائق والقيم هو مبدأ مُقرُّ ضمن النموذج التوجيهي المهيمن للعلوم الاجتماعية المعاصرة كضامن للمعايير الموضوعية في التقصي والتفسير العلمي، لكنه وارد أيضاً في القرآن الكريم قبل الفكر الاجتماعي المعاصر بألف عام على الأقل، كما تعزز الآية الأولى والثانية أعلاه، وغيرها من الآيات التي تدعو الى التفكر والتدبر والتعقل والقراءة وطلب العلم (الدنيوي والديني) وتنهى عن اتباع الظن والتقليد وما تهوى الأنفس.

فسنن الحياة الإجتماعية لا علاقة لها بالرغبات والأهواء والحرص البشري، كما هو الحال مع القوانين الطبيعية، فهي تعمل باستقلال وبمعزل عن الميولات البشرية وتشهياتها ومصالحها وتحزباتها وأهوائها. فهل صدف وأن استأذن قانون الجاذبية أيا كان ومهما كان للعمل وتنفيذ أوامره الكونية؟

وعلى سبيل المثال، أيد حجة الإسلام الغزالي في فكره الاجتماعي ضرورة الفصل بين الحقائق والقيم، كما يرى د. عبد الرزاق الجبوري، أي التمسك باكتشاف الحقائق كأدلة علمية واقعية تفسر الظواهر الطبيعية والاجتماعية -كما هي- دون التأثر بالقيم وأحكام القيمة لأنها يمكن أن تضلل الباحث والدراسات الاجتماعية الموضوعية وتشوه نتائجها.

أمثلة هامة على السنن الاجتماعية العالمية والمطّردة المستمدة من القرآن: قوله تعالى في قانون التغيير الاجتماعي: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد:11)، وقوله تعالى في قانون الجزاء والعقاب: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الروم: 41)، وقانون عقم المكر: “وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ” (فاطر 43) وقانون السعادة والتعاسة البشرية: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً” (طه: 124)، وقانون التدافع: “ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ” (البقرة: 251) (لمزيد من التفاصيل: أنظر كتاب “علم القرآن التنموي” للكاتب). وبطبيعة الحال، نحن هنا لا نتحدث عن القوانين التجريبية “الجزئية” والسياقية، أي تلك المرتبطة ببيئة محددة وزمان ومكان بعينه. فهذا من اختصاص العلوم الاجتماعية التجريبية.

هذا المقال يؤسس لتأصيل العلوم الاجتماعية المعاصرة في الإقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها، بالاعتماد على فقه السنن من ناحية، وعلى البحث العلمي التجريبي الصارم من ناحية أخرى.

وفي البحث التجريبي، فإن الحقائق المجتمعية ينبغي ان تدرس بمعزل عن أهواء الباحث وتحيزاته القيمية. لكن “ما هو كائن” في الصين مختلف عما هو كائن في العالم الغربي ومتباين عما هو كائن في العالم العربي، ولكلٍ خصوصياته وظروفه الأولية ومؤسساته ومساره التاريخي المختلف. ويمكن التعميم بأنه لا يوجد سنن وقوانين اجتماعية ثابتة وعالمية الا ما ورد في فقه السنن الربانية، وهو فقه تقريري، عالي المستوى والقيمة، ومؤسس على مجموع النصوص قطعية الدلالة والثبوت غير القابلة للتخصيص أو التقييد بنص آخر.

قابلية التثبت تعني امكانية التأكد من صحة فرضية وصفية أو إدعاء واقعي من خلال الحواس والمشاهدة والتفكّر والنظر ودون تحيزات مسبقة. وفي القرآن الكريم العديد من النصوص التي تؤكد على هذا المبدأ التجريبي العقلاني: “قل سيروا في الأرض فانظروا”، و”ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم” (الكهف: 51)، و”ولا تقف ما ليس لك به علم، إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا” (الاسراء: 36). هذه العقلية العلمية هي من أخرجت ابن الهيثم والرازي وابن سينا والبيروني والغزالي وابن خلدون.

وأخيرا، فإن فقه السنن الاجتماعية هو ليس بديلاً عن المنهج العلمي التجريبي بل هو مكمل له، رغم انه الأصل في إرساء القوانين الحتمية الكبرى على الأغلب. والعلوم الاجتماعية التجريبية هي أداة مكملة لاكتشاف الأنماط والاتجاهات الاجتماعية التفصيلية (الجزئية) في اطار زماني ومكاني محدد، ولهذا كله لابد من دعم تأسيس علوم اجتماعية عربية نقدية في جامعاتنا العربية والإسلامية ذات منطلقات وأجندة وأوليات مختلفة عن نظيريتها الغربية .

بقلم الباحث والكاتب الأردني "جمال الحمصي"

المصدر: رأي اليوم
captcha