ولا يخلو العالم من الفتن والأزمات والمحن لأنّ هناك صراعاً بين الحق والباطل قائماً على قدم وساق فتظهر الفتنة بصور مختلفة ومظاهر جديدة في كل زمان ومكان، ومن هنا تطلّ إشراقة الوحي والأديان التوحيدية لإزاحة الفتن وإراحة الناس من الهضم والضيم، فوقف بوجه الباطل وكافحه كل من الأنبياء والأوصياء والصالحين، ومن جملة هؤلاء الثلة الصالحة هم الفقهاء ومراجع الدين فهم لم يكتفوا بالإفتاء والقضاء وما هو بعاتقهم من حل القضايا الدينية بل بذلوا قصارى جهدهم في حل الأزمات الاجتماعية والفتن التي توجهت إلى المسلمين كيف لا وهم الملجأ للناس في غيبة الإمام (عليه السلام) فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يَقُولُ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ... ثُلِمَ فِي الْإِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ يَسُدُّهَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ اَلْفُقَهَاءَ حُصُونُ اَلْإِسْلاَمِ كَحِصْنِ سُورِ اَلْمَدِينَةِ لَهَا.[1]
وفي المقال هذا نعرج إلى بعض النماذج التي وقف فيها الفقهاء إلى جانب الناس وسعوا إلى حل الأزمات وإخماد الفتن.
الإمام الخميني (ره) وفتنة المنافقين
انتصرت الثورة الإسلامية في إيران عام 1978م بقيادة الإمام الخميني (ره) بعد تقديم التضحيات والمناضلات والصبر على المآسي والمحن فأدّى ذلك إلى تأسيس حكومة إسلامية، وما إن استمرت حلاوة الإنتصار حتى ظهر المنافقون الذين عارضوا الثورة وقاموا بأعمال إرهابية وقتلوا الكثير من الأبرياء والشخصيات المهمة السياسية والدينية، ثم داهنهم وشاركهم في حركتهم بني صدر رئيس الجمهورية في إيران عام 1978م، فكادت تحدث فتن عظيمة في الشعب الإيراني، وبعد ما نهاه الإمام الخميني (ره) من تصرفاته لعدة مرّات ونصحه، أقاله من قيادة القوّات المسلحة المشتركة ثم أصدر مجلس الشورى في إيران عدم كفاءته لتصدي الرئاسة وبالأخير أبطلت رئاسته بحكم الإمام الخميني (ره)، لأنّ الولي الفقيه في إيران هو الذي يقوم بتنفيذ حكم الرئاسة وإبطاله وفق دستور هذا البلد، وللإمام فتاوى ومواقف أخرى أدّت إلى فشل حركة المنافقين وتخلّص الناس من إرهابهم.
آية الله العظمى السيد علي السيستاني ومواقفه في العراق
وشنّت القوات الأمريكية هجوماً على العراق عام 2003م وبعد مرور أيام قلائل استطاعوا أن يقضوا على نظام الطاغية صدام واحتلوا العراق إلّا أنّهم عام 2004م واجهوا المقاومة في النجف الأشرف التي تسمّى بجيش المهدي فأدّى ذلك إلى خسارة في الجيشين ولكن القوات الأمريكية تفوّقت على المقاومة فاضطر جيش المهدي إلى اللجوء إلى الحرم العلوي الشريف _على ثاويه الصلاة والسلام_ فتأزم الوضع في النجف لأنّه كانت مخاوف على قتل الشيعة المحاصرین وهتك البقاع المقدسة فبدأت المفاوضات بين الحكومة العراقية الجديدة وقوات الأمريكان ولكنّها لم تصل إلى حل، وفي هذه الأثناء آية الله السيد علي السيستاني قطع رحلته العلاجية في لندن التي أجرى خلالها عملية جراحية ورجع إلى العراق وحين وصوله إلى النجف تم إعلان هدنة بين الطرفين، فاقترح السيد حلّاً لهذه الأزمة وجعلوا شروطاً لإنهاءها، ثم سلّموا مفاتيح العتبة العلوية إلى السيد السيستاني، فخرج الشيعة من العتبة وحقنت دماءهم بتدبير سماحته ولولا مبادرة السيد في حل هذه الأزمة لراح العديد من القتلى في الشيعة ولانتهكت البقاع المقدسة آنذاك.
والموقف الثاني النبيل للسيد هو إخماد فتنة داعش الإرهابي، حيث ظهرت عام 2014م في العراق وارتكب أبشع الجرائم من القتل والنهب ومصائب أخرى يصعب ذكرها في حق الشعب العراقي فاستطاع أن يحتلّ مدنًا كثيرة ولم تستطع الحكومة العراقية أن تقضي على هذه الأزمة، بعد ذلك جاءت فتوى السيد الخالدة قائلاً فيها: على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعا عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم التطوع والانخراط بالقوات الأمنية... فتحشّد الناس من شتّى مناطق العراق وذهبوا لمواجهة داعش وقدّموا التضحيات ولولا الفتوى وانصياع الناس لها لبقيت فتنة داعش إلى اليوم تهدّد الكيان العراقي والإسلامي بأسره. ولايخفى على أحد أنّ بعض الدول أيضاً قد شاركت في مواجهة داعش والقضاء عليه.
الإمام الخامنئي وحل أزمة الإنتخابات
وأجريت الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009م و بعد فرز الأصوات حصلت فتنة عظيمة حيث اعترض فيها بعض المرشّحين على نتيجة الانتخابات وادّعوا وجود التزوير فيها، ثم دعوا الناس إلى مظاهرات سلمية ولكن لم تلبث إلا وقد تحوّلت إلى احتجاجات غير سلمية فتم فيها اشتباكات بين الناس وقوّات الأمن لأنّه كان فيما بين الناس الأيادي الصهيونية والأمريكية الذين تربّوا لأجل الفوضى في إيران والقضاء على نظامها، بعدها دعت الحكومة إلى الهدوء حتى الوصول إلى حل للقضية، لكن الوضع تأزّم أكثر من السابق حيث انتهك بعض المحتجين مقدسات الإسلام والشيعة من حرق المساجد وانتهاك حرمة شهر محرم الحرام والطقوس التي ترتبط بهذا الشهر، بعد ذلك جاءت الخطبة الغراء لسماحة آية العظمى السيد علي الخامنئي قائد الثورة الإسلامية في إيران حيث بيّن فيها مواضيع حسّاسة ومهمّة واستطاع من خلالها إخماد نار الفتنة ودفع الأزمة عن الناس وعن النظام الإسلامي ولولا تدبيره وإرشاده لراحت ضحايا كثيرة وتزلزل النظام الإسلامي في إيران.
وإلى يومنا هذا، فإنّ الفقهاء وعلماء الشيعة يقفون إلى جانب الناس ويهتمّون بحل الأزمات وإخماد الفتن التي تحل بلاد المسلمين وأخيرًا حدثت فتنة الانتخابات في العراق وراح فيها العديد من القتلى والجرحى وراح الوضع يتأزّم أكثر فأكثر ولكن خبر اعتزال السيد الحائري عن المرجعية هذه الأثناء أطفأ نيران الفتنة حيث تراجع السيد مقتدى الصدر عن مواقفه السياسية ودعا حزبه وأتباعه إلى الرجوع عن مواقفهم وإنهاء الاحتجاج الذي سيؤدي إلى خسائر فادحة.
والحاصل أنّ مسؤولية الفقهاء لا تنحصر بالإفتاء وحل القضايا الدينية بل لهم الدور الأساس في حل الأزمات الإجتماعية والسياسية في بلاد المسلمين ودفع الفتنة عنها.
بقلم المحقق وأستاذ الحوزة العلمية في قم المقدسة "السيد علي الموسوي آل مهدي"
[1] . الکافي، ج۱، ص۳۸.