وکتب الأكاديمي والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية "الدكتور فرح موسى" في جواب مَن سأله عن الفرق بين أن يوصف الغلام بالعليم وبين أن يوصف الغلام بالحليم في الاستخدام القرآني؟ وهل ثمة تمايز بين المفردتين في الدلالة القرآنية أكثر مما نعلمه عمّا تفيده اللغة من ذلك؟
لقد أجمع علماء التفسير وكذلك علماء البيان والنحو على أن التعبير القرآني لايورد مفرداته التي هي اللبنات الأولى؛ والمادة الخام للوحي إلا بمقدار وميزان، مصداقًا لقوله تعالى "وكل شيء عنده بمقدار"، ولهذا فإن القرآن يوّجه أنظارنا إلى تدبر آياته من خلال مفردات يضعها في فضاء دلالي خاص مميز لا يلتبس مع مفردات فضاء دلالي آخر.
وهنا يكمن السر الإعجازي لآيات الله تعالى التي يقف الإنسان عاجزاً مبهوراً أمامها! فالقرآن يقول على لسان سيدنا إبراهيم(ع): "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ"، وفي سياق آخر قال تعالى "قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم".
وقد أجمع العلماء على أن الغلام الحليم هو النبي إسماعيل(ع)، وأن الغلام العليم هو النبي إسحاق(ع)، فجاء الوصف لهما ليفيد اختلاف الدلالة حتماً، هذا فضلاً عن أن البشرى لإبراهيم بالغلام الحليم لم تكن بواسطة الملائكة كما كانت البشرى بإسحاق، ففي آية قال تعالى: "فبشرناه" وفي آخرى قال تعالى "إنا نبشرك..."، وهكذا فإن لكل آية سياقها الخاص ودلالتها الخاصة والمميزة، فلم يأت الوصف واحداً ما يقتضي التدبر في تعنيه كل مفردة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العليم ليس بالضرورة أن يكون حليماً؛ ولكن وصف الحليم يستبطن العلم، ولهذا قال الإمام علي(ع): "إن لم تكن حليماً فتحلم..".وقال(ع): "لن يثمر العلم حتى يقارنه الحلم.".لذا فإن ما يقتضيه التدبر هو أن نعلم مفاد كل دلالة في سياقها، لأن النبي إسماعيل(ع) هو الموصوف بالحلم، وقد ظهر من آيات الله ما يفيد عظمة هذا النبي(ص) وصبره وحلمه حينما تله إبراهيم(ع) للجبين وقال لأبيه إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين...وهذا ما لا بد أن تكون له دلالاته في أمة هذا النبي العظيم، حيث ظهر من كلام الرسول الأعظم محمد(ص) ما يؤكد لنا امتداد هذا الحلم الإسماعيلي لصبره على المحن والابتلاءات حتى قال(ص):" ما أوذي نبي مثلما أوذيت"وغير ذلك مما يعطي الفرادة في الحلم والعلم لأمة محمد( ص).
أما ما تميزت به دلالات مفردة العليم من امتدادات في الأمة الإسرائيلية، فأقصى ما بلغته هذه الأمة أنها لم تكن تصبر على الشدائد وغالباً ما كانت تسقط أمام المحن والبلاءات،وقد أخبرنا القرآن عن كثير من التفصيلات المتعلقة بتصرفات بني إسرائيل مع أنبيائهم! ولعله من الفائدة استحضار تحولات هذه الأمة في تاريخها، فهي كانت دائماً تعلم،ولكنها لم تكن تتحلم في مواجهة صعوبات الحياة، ويمكن لأي باحث في تاريخ السيرة النبوية أن يستنتج حقيقة ما كان عليه بنو إسرائيل في تعاملهم مع النبي محمد(ص) في المدينة المنورة، فهم رغم علمهم بحقائق الأمور فلم يتحلموا وخاضوا الحروب ضد الرسول(ص) حتى تم إجلاؤهم لأول الحشر وكانت النهاية في خيبر قبل فتح مكة، فلو كانوا تناهوا عن منكر فعلوه واتبعّوا النبي(ص) لكان خيراً لهم؛ ولكنهم،كما قلنا لم يتحلموا لتثمر علوم الدين عندهم، فازدادوا طغياناً وحرفوا الكتاب من بعد مواضعه! ولهذا نجد بني إسرائيل قد أخذوا العلم عن أنبيائهم دون الحلم، ولو أنهم تحلموا لكانوا استفادوا من تجاربهم وعلومهم في ما كانوا يتخذونه من خيارات دينية وسياسية، إذ إنه من علامات التحلم في إدارة الأزمات إثارة دفائن العقول والتعارف واتخاذ كل ما يلزم من خطوات لحفظ الكرامة الإنسانية وحقوق الناس بدلاً من التعرض لهم والاعتداء عليهم كما هو حال (وديدن) بني إسرائيل في تاريخهم!
فالله يقول:"أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً.".فهذا مبلغ علمهم أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ وقد تبعتهم الأمة الإسلامية في ما اختارته لنفسها من هوان ومسكنة، فلم يبدر منها أنها كانت على تعقل وحلم حينما اختارت في مقابل ما اختاره الله لها، فالله يقول:"لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله.."،وهي قدمت كل شيء بين يدي الله! وهذا هو تمام الصلف في تاريخ الأمة الإسلامية، فلم يكن رسول الله أسوة لها، وبدل أن تتميز عن الأمة الإسرائيلية بتمام العلم والحلم نجدها قد سلمت مقاليدها لبني إسرائيل فخسرت خيريتها وشهادتها ووسطيتها مما مكن كل الأمم من الفوز والعلو عليها..!؟
كان الأجدر بهذه الأمة أن تتميز بالعلم والحلم معاً؛ لأن الأنبياء جاؤوا بما يمكن الأمم من النهوض العلمي والحضاري، فإذا كانت الأمة الإسرائيلية قد تعقلت عن الله معنى العلم، فهذا لم يجعل منها أمة متحلمة وإلا لما كنا نشاهد هذه الأمة تنتج لنفسها الأزمات وتندفع نحو الهاوية، فها هم بنو إسرائيل اليوم كما هو حالهم في العالم، وبعد أن احتلوا فلسطين يندفعون بسرعة نحو العدواة لكل الشعوب دون أدنى حلم منهم لما ينبغي أن يكونوا عليه من حكمة ودراية بحيث يعلموا أن نهاية الظلم هي الخسران والزوال! إنها أمة تعلمت وتميزت بتحصيل العلم والمعرفة ولكنها كانت ولا تزال تفتقر إلى الحلم الذي من شأنه أن يحول بينها وبين ما ينتظرها من مصير وانهيارات ليس في السياسة وحسب وإنما في الوجود أيضاً! وكل أمة لا تتحلم لا بد أن يكون مصيرها الى مزيد من البؤس والضياع، وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذا المصير طالما لم تقتدِ هي أيضاً بنبيها(ص) الذي امتد به علم وحلم الأنبياء جميعاً.
إن بني إسرائيل اليوم يعيدون كرتهم الخاسرة بعد أن ازدادوا علماً،وحبذا لو أن هذه الأمة اليوم تتحلم لتنجو من مساوىء خياراتها فتمتنع عن العدوانية وتنهي احتلالها للأرض والمقدسات قبل أن يتحول علمها الى وبال عليها تماًماً كما جرى لها في تاريخها، سواء مع أنبياء بني إسرائيل أو مع النبي محمد(ص)، مما تقدم نستطيع القول "إن تمايز المفردات القرآنية يستبطن هذا التمايز في الدلالات بين أن تكون الأمة عالمة أو أمة حالمة، فالله تعالى يظهّر لنا هذه الدلالة ليبين لنا معنى تمايز الشعوب في ما تختاره لنفسها من علم وحلم، وكما قال الإمام علي(ع): إن العلم لا يثمر ما لم يقارنه الحلم.
وكان من تمايز الأمة الإسلامية أنها نالت بشرى الحلم من الله تعالى مباشرة وليس عبر الملائكة متميزة عن بني إسرائيل في ذلك، ولكنها لم تهتدِ الى سبيل ربها فاستكانت وخضعت لمن اختاروا العلم دون الحلم،وهذا أدى بدوره الى أن تكون الأمة الإسلامية تابعة وملحقة بمن فازوا بعلوم الجماد دون علوم الحياة.والسلام.
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: