
لقد مرّت على رحيل القارئ الباكي الشيخ محمد صديق المنشاوي عبقرى التلاوة وسلطان المقرئين وصاحب الصوت الخاشع والنفس الزاهدة خمسة وخمسون عاماً، "بوابة أخبار اليوم" تنشر لأول مرة تفاصيل جديدة عن حياة الشيخ محمد صديق المنشاوى.
وقال نجله الدكتور عمر محمد صديق المنشاوي: فى مركز المنشاة جنوب محافظة سوهاج ولد محمد صديق المنشاوي في 20 يناير 1920، لينضم إلى الأسرة المنشاوية ويصبح سلطاناً لدولة التلاوة.
وتابع نجل الشيخ الدكتور عمر محمد صديق المنشاوي، الأستاذ بجامعة الأزهر، أن والده نشأ في أسرة عريقة توارثت تلاوة القرآن الكريم، فكان الجد الشيخ تايب المنشاوي، ومن بعده ابنه الشيخ صديق المنشاوي، ومن بعده أحفاده محمد ومحمود، قراء للقرآن الكريم.
وأضاف الدكتور عمر المنشاوي، أن العائلة معظمها من حفظة ومجودي وقراء القرآن الكريم، مشيراً إلى أن والده أتم حفظ القرآن الكريم في التاسعة من عمره، وكان متأثراً بوالده، الذي تعلم منه فن قراءة القرآن الكريم. ومن سماعه للشيخ محمد رفعت وأن والد الشيخ المنشاوي قد أوتي مزامير داوود ليتلوا بها آيات القرآن الكريم، فاتخذ نهجاً مميزاً في تلاوته، طوّع فيها أحباله الصوتية تعلو وتهبط دون عناء، ليستشعر القارئ حلاوة المعنى، وتخشع روحه ثقة فيما أخبر الله ولم يدرس والدنا الموسيقى ولم يتعلم المقامات بل قرأ القرآن الكريم بالسليقة ومن أبيه والشيخ محمد رفعت ومن سبقه.
وأضاف الدكتور عمر: وبدأت رحلة الشيخ محمد صديق المنشاوي مع القرآن الكريم - عندما سافر إلى القاهرة مع عمه القارئ الشيخ أحمد السيد المنشاوي، فحفظ ربع القرآن في عام 1927، ثم عاد إلى بلدته المنشاة، وأتم حفظ ودراسة القرآن على يد مشايخه محمد النمكي ومحمد أبو العلا ورشوان أبو مسلم، لتبدأ رحلته مع التلاوة وهو فتى لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره.
وتابع نجل الشيخ المنشاوي، أنه عندما سمح الشيخ صديق المنشاوي لابنه محمد بالقراءة في قرية «أبار الملك» بمحافظة "سوهاج" المصرية، فجذب صوته انتباه الحضور، وكانت سعادة والده بهذه الليلة لا توصف؛ حيث تساءل -وقتها- "كيف لهذا الفتى الذي لم يتجاوز الحادية عشرة أن ينال كل هذا الاستحسان؟"، ليذيع صيته بعدها بحلاوة وعذوبة صوته الممزوجة بالخشوع المبهر والمبكي في آن واحد، أن والده رفض بشدة الانضمام إلى قراء الإذاعة في بداية مشواره مع التلاوة، قائلاً: «لست بحاجة إلى شهرتها».
ويتابع نجل الشيخ المنشاوي، أن أصدقاء والده عرضوا عليه أن تحضر الإذاعة المصرية بمعداتها إلى مدينة إسنا في بيت «آل حزين» خلال شهر رمضان المبارك، للتسجيل للإذاعة المصرية، فوافق على ذلك، وتم تسجيل تلك الليلة الرمضانية في عام 1953، واعتمد بهذا التسجيل قارئًا في الإذاعة دون عقد أو اختبار، في سابقة لم تحدث من قبله ولا من بعده.
وأوضح أن والده سافر إلى العديد من الدول بدعوات من رؤسائها؛ حيث كان يحمل فى الخمسينيات لقب «مقرئ الجمهورية العربية المتحدة»، فتلا القرآن الكريم خارج مصر، في المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى في القدس، والمساجد الكبرى في دول الكويت وسوريا وليبيا وباكستان والعراق وإندونيسيا.
وذاع صيت الشيخ المنشاوي لعذوبة صوته وجماله وتفرده، إضافة إلى إتقانه التلاوة على مقامات القراءة، وانفعاله العميق بالمعاني والألفاظ القرآنية.
حصل الشيخ المنشاوى على أوسمة عدة من دول مختلفة؛ حيث منحه الرئيس الإندونيسي "أحمد سوكارنو" وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، كما حصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا، وغيرها من الأوسمة من لبنان وباكستان، كما حاز على عدد من التكريمات من ملوك وزعماء الدول حول العالم؛ لأسلوبه المتفرد الذي أنشأ به مدرسة في فنون التلاوة تمتاز بالإحساس والخشوع. ورفض الشيخ كل هدايا الملوك والرؤساء واكتفى بالاوسمة والتكريمات.
ويقول نجل الشيخ محمد صديق المنشاوي إن والده كان له طقوس قبل البدء في قراءة القرآن، فكان يصلي ركعتين، ثم يدعو الله بعدهما، يعتلي بعدها «دكة» التلاوة مغمض العينين، ويظل صامتاً عدة دقائق قبل بدء التلاوة بالاستعاذة والبسملة وبأنه كان شديد التواضع، بسيط النفس، لم تنل منه الشهرة الكبيرة التى حازها، مؤكداً حرصه على علاقته بأهل بلدته.
ويقول إنه كان يغوص في معاني القرآن وينسى نفسه، وحين يقرأ سورة التوبة والأنفال يشعرك صوته بأنك في قلب المعركة، وكان علاقته طيبة بجميع القراء، وكان الشيخ عبدالباسط والشيخ كامل يوسف البهتيمي من المقربين لوالده، و أنه من عشقه للشيخ محمد رفعت سمى أحد أولاده رفعت، إلا أنه توفي في سن 10 سنوات.
وتزوج الشيخ محمد صديق المنشاوي مبكرًا وكان عمره 14 عاماً وكانت زوجته الأولى ابنة عمه، وتزوج الثانية من بعدها وعاشتا في بيت واحد تجمعهما المحبة، ورزق من زوجته الأولى ولدا وبنتين، ومن زوجته الثانية خمسة أولاد وأربع بنات.

وأنه رغم مرضه وتدهور حالته الصحية إلا أنه ظل يقرأ القرآن بكل قوة وعزيمة إلى أن وافته المنية، ملبياً نداء ربه في يوم الجمعة الموافق 5 ربيع الثاني عام 1389 هجرياً، الموافق 20 يونيو 1969 ميلادياً، في سن مبكرة في حياة والده الشيخ صديق المنشاوي، الذي نعاه باكياً عند وفاته قائلاً: «لو عاش ولدي أكثر من ذلك لفتن الناس بصوته».
ودفن الشيخ محمد صديق المنشاوي في مقبرة بسيطة، خالية من أي زخارف أو نقوش، باستثناء لوحة من الرخام عليها تعريف أو إشارة بأن المقبرة للشيخ محمد صديق المنشاوى، ومدون على اللوحة يوم ميلاده ويوم وفاته.
وكان له الكثير من التسجيلات التي استطاع تسجيلها في فترة قصيرة، حيث سجل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم، المسموع عبر إذاعة القرآن الكريم، بالإضافة إلى رواية «شعبة عن عاصم» ورواية «الدوري عن أبي عمرو» بالتعاون مع الشيخ العروسي، مطالبة المسئولين بالتنقيب عن هذا التراث وإظهاره.
ويقول الدكتور عمر محمد صديق المنشاوى الأستاذ بجامعة الأزهر، إن والده كان يكره الشهرة والظهور والاضواء رغم أن مجال عمله بقراءة القرآن الكريم وتلاوته تستلزم الظهور بين الناس فى الحفلات والمناسبات العامة التى كان يدعى إليها كقارئ.
وأضاف الدكتور عمر أن والده الشيخ كان قريباً من الفقراء ومحباً لهم وأغلب أصدقائه من الفقراء ودائماً ما كان يدعوهم لمائدته في المنزل ويامر أهل بيته بتقديم ما لذ وطاب من الأطعمة.
وأكد الدكتور عمر، أن والده لم ينتمى لأي حزب سياسي ولم يكن يهتم بالسياسة فقد كان القرآن الكريم كل حياته وشغله الشاغل ولم يكن يكره عبدالناصر كما أشيع بعد واقعة رفضه الذهاب الى عبدالناصر للقراءة أمامه عندما جاءه مندوب رئاسة الجمهورية طالباً منه الحضور للقراءة أمام عبدالناصر، قائلا له لك الشرف أن تقرأ أمام الرئيس عبدالناصر فرد عليه الشيخ الوالد ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر أن يستمع للقرآن الكريم بصوت محمد صديق المنشاوي.
فغضب الشيخ من أسلوب مندوب الرئاسة وليس من عبد الناصر وكانت طبيعة العلاقة بينه وبين عبدالناصر طبيعية وطيبة حتى وافته المنية.
وأشار الدكتور عمر إلى أن والده تزوج فى عمر صغير 14 عاماً واستقل بحياته عن والده بعد الزواج، وذاعت شهرته وهو في عمر الـ14 عاما قبل أن يعتمد فى الإذاعة المصرية.
ويقول ابنه المحاسب صلاح المنشاوى، إنه لا أحد يعرف أن شقيقه الأكبر الدكتور عمر وهبه الله صوتاً يشبه صوت الشيخ الوالد فقد ورث الدكتور عمر صوت أبينا لكنه اتجه للتدريس بجامعة الأزهر ولم يتطرق باب التلاوة مثل والدنا رغم عذوبة صوته والقريب من صوت الوالد.
وأصيب الشيخ محمد صديق المنشاوي بمرض دوالي المرئ وقد أمر الرئيس جمال عبد الناصر سفره إلى لندن وعلاجه على نفقه الدولة ورغم مرضه ظل يقرأ القران حتي توفي قبله سفره يوم 20 يونيو 1969 عن عمر 49 وترك لنا أثراً كبيراً بتسجيلاته التي ترن في كل بيوت العالم الإسلامي.
ورغم أن الشيخ محمد صديق المنشاوي ينتمى إلى محافظة سوهاج إلا أن المحافظة لم تفكر يوماً فى الاحتفاء والاحتفال بواحد من أكبر وأفضل وأعظم من قرأوا القرآن الكريم تجويداً وترتيلاً، ويقول صلاح المنشاوي، نحن جميعا أبناء الشيخ المنشاوي ورثنا عنه كرهه للشهرة وعدم الظهور ولا نحاول أن نعرف أنفسنا بأننا أبناء الشيخ رغم فخرنا وحبنا وعشقنا لاسم والدنا الكريم، ولكن عندما يعرف الناس أننا أبناء الشيخ المنشاوى نلقى معاملة كريمة منهم.
ويقول الدكتور عمر أننا نتوجه بالشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي لإطلاق اسم والدنا على محور كوبري منفلوط ذلك الأمر الذى ادخل الفرحة فى قلوبنا جميعاً، ونحن كأبنائه نحب والدنا ونعشقه ونعشق صوته وجميعنا نعيش معه ومع صوته ليل نهار دائما نستمع إليه من خلال إذاعة القران الكريم أو عن طريق الإنرنت فدائماً الوالد معنا بصوته الخاشع وكأنه يرسل لنا حبات المطر تنزل علينا برداً وسلاماً على قلوبنا تطمئننا في هذه الحياة وتعطينا الأمل والقوة للاستمرار فى طاعة الله ورضاه.
المصدر: بوابة أخبار اليوم
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: