
هذه معادلة أخرى يقرِّرها الإمام أمير المؤمنين (ع) والتجربة البشرية تشهد لها، فكل شخص مِنَّا خاض واحدة أو أكثر من هذه التجارب فأدرك مقصوده، ونال مراده، وحقَّقَ أهدافه بعد أن تَجرَّع المَرارات، وصبر على المصائب، وثبت أمام المَصاعب، ونجح فيما ابتُلِيَ به.
كلمة "تَجَرَّعَ" تعني ابتلاع شيء غير مرغوب به بصعوبة ومشقة، كمن يبتلع العَلقَم أو الشيء الكَريه المُنَفِّر، وكلمة "الغُصَص" تشير إلى تلك المواقف أو الأزمات التي تسبب الألم والمعاناة للإنسان، سواء كان ذلك ألَماً نفسياً أو جسدياً، الغُصَصُ هي تلك المشكلات الحياتية، أو الأزمات، أو الانكسارات، أو الخسارات المادية، أو خسارة الأحبة، أو حتى الفشل في تحقيق الأهداف، أو ما يناله العدو منا. وتَجَرُّعُ الغُصص يعني قبول هذه الصعوبات وتجَرُّع مرارتها، ويعني القدرة على تحمِّل الشدائد وتجاوزها، حتى لو كانت مُؤلِمة، في هذا السياق يظهر مفهوم الصبر والصمود أمام التحديات التي تواجه الإنسان.
وأما الفُرَصُ فهي تلك اللحظات أو الظروف العابرة التي تتيح للفرد تحقيق شيء ما، سواء كان ذلك نجاحاً مهنياً، أو تقدماً في مجال معين، أو فرصة لتحسين الذات أو الظروف، أو فرصة للانقضاض على العدو في اللحظة المؤاتية للتغَلُّب عليه أو منعه من تحقيق أهدافه.
إن إدراك الفرص لا يأتي بسهولة ويُسْرٍ ومن دون كُلَفٍ باهِظة أحياناً، فهو يتطلَّب عيناً يقظة، وبصيرة نافذة، وشخصية مبادرة، وفِكراً واعياً قادراً على استنباط الحلول، واقتناص اللحظة المتاحة، والإفادة من الإمكانيات المتوفِّرة، بل وتحويل التهديد إلى فُرصة في أغلب الأحيان، فإن العديد من الفُرَص تكون مخفية وسط التحديات، ومن يحتاج إلى استغلالها يجب أن يكون قادراً على رؤية الإمكانيات المتاحة حتى في الأوقات الصعبة.
ما< يميز هذه المعادلة هو الربط بين الصَّبر على الألم والمُعاناة، والصبر على الفَقد والخسارات، والصبر في الأزمات والحروب والمُلِمَّات وهو المُعَبَّر عنه (تجرُّع الغُصَص) وبين النجاح والفَوز والانتصار المعبر عنه (إدراك الفرص) فالعلاقة بين الجزئين توحي بأن الإنسان الذي يمرُّ بتجارب صَعبة، ويواجه المصاعب بروح التحمُّل والصبر، يصبح أكثر قدرة على إدراك الفرص التي تأتي فيما بعد لأنه يكتسب خبرة عملية ونُضجاً فكرياً وقوة نفسية الأمر الذي يجعله أكثر حكمة في التعامل مع الفرص المستقبلية، ومن خلال تلك المعاناة، يتعلَّم كيفية التكَيَّف مع الأوضاع غير المِثالية، ويصبح أكثر قدرة على رؤية الجوانب الإيجابية في الأوقات السلبية.
إن الفرص لا تأتي لمن يستسلم بسهولة، الذي يستسلم بسهولة لا ينجز شيئا مدى عمره، لا يذوق طعم النجاح والفلاح، يعيش مهزوماً فاشلاً ذليلاً، أما الشخص الذي يصمد في وجه الصعوبات، ويستمر في السعي رغم الألم، فهو الذي يكون لديه فرصة أكبر لتحقيق النجاحات. وما يصدق على الفرد يصدق على الجماعة تماماً. هذه العبارة تشير إلى أن المثابرة والصبر هما المفتاح الأساسي للوصول إلى الفوائد الكبيرة.
واعلم قارئي الكريم: أن طريق الانتصار ليس سهلاً، والسائر عليه ليس بالضرورة أن يكون في حال صعود دائم، فقد تتراجع الجماعة أحيانا إلى الخلف لترجع إلى الصعود مرة أخرى، قد تُصابُ بانتكاسات، قد تصيبها سهام العدو، قد تخسر من إمكانياتها وأرواح أفرادها، قد تفشل في تحقيق بعض أهدافها، لكن في كثير من الأحيان، الفشل هو بداية النجاح، الجماعة التي تمُرُّ بالفشل وتستطيع الاستفادة من دروسه، ستكون أكثر قدرة على استغلال الفُرَص القادمة، والتحديات التي تواجهها تعطيها القدرة على التَّكَيُّف مع الواقع المُتغيِّر، وهذا يُمَكِّنها من التفاعل بشكل إيجابي مع الفرص المستقبلية.
واعلم: أن الصبر مفتاح النجاح، والتعامل مع الأزمات بروح صبورة يجعل الإنسان أقوى وأكثر استعدادًا لاستغلال الفرص التي قد تأتي بعد ذلك. والمعاناة والتحديات دائماً ما تكون مصدراً للتعلُّم والنُّمُوِّ في مختلف الأصعِدة، ومن يعاني ويتعلم من معاناته، يصبح أكثر حكمة في التعامل مع المستقبل. فلا يجوز للفرد والجماعة أن يستسلمما بسهولة فالفشل والتحديات من طبيعة الحياة، ومن خلال المثابرة والصمود، يمكن تحويل هذه الصعوبات إلى فرص غير مُتوقَّعة.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: