
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لَيْسَ مُؤْمِناً مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِإِصْلاحِ مَعادِه".
تُعَبِّر هذه الجوهرة العلوية الكريمة عن عن مفهوم ديني وأخلاقي عميق يتصل بجوهر الإيمان في الإسلام، حيث يشير "المعاد" إلى الحياة الآخرة، و"إصلاح المعاد" يشير إلى السَّعي لتحسين حال الإنسان في الآخرة من خلال الأعمال الصالحة والتقوى.
الإيمان قارئي الكريم ليس مجرد اعتقاد بالقلب، بل هو مزيج بين الاعتقاد والعمل، إنه اعتقاد يستَقِرُّ في القلب، وعمل ينشأ من ذلك الاعتقاد وينسجم معه ويكون على شاكلته، الإيمان يتمثل في الاعتقاد بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وشريعته وقِيَمِه.
قال الله تعالى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿4﴾ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿5/ البقرة﴾. وهذا يتطلَّب انعكاس هذا الإيمان على سلوك الفرد وأعماله، فالإيمان الحقيقي يظهر في اهتمام الإنسان بعمل الخير وتجنب الشر، والسعي لتحسين علاقته بالله تعالى والناس من حوله.
إن الإسلام يشدِّد على أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، وفي هذا الشأن هناك آيات وأحاديث كثيرة تؤكِّد أن الإنسان يجب أن يسعى في الدنيا ليكسب حسنات تؤهله لدخول الجنة والنجاة من النار، ويكفينا قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4/ الأنفال﴾. وقوله تعالى: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"﴿3/ العصر﴾. فالإيمان وحده لا يكفي بدون العمل الصالح.
ومِمّا لا شَكَّ فيه أن الإيمان بالمعاد هو الركن الثاني الأهم من أركان العقيدة الإسلامية، بعد الركن الأول وهو التوحيد، وبقية الأركان تنشأ من الاعتقاد بالركن الأول الوحيد. ودائماً ما نجد الربط بين الركنين في القرآن الكريم.
المؤمن يعتقد أنه لم يولد لهذه الحياة الدنيا، ولن يخلُد فيها، بل يعتقد أن وراءها نشأتان أرقى منها وأسمى، نشأة البرزخ، ونشأة الآخرة، ويعتقد أن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، وهي دار قراره ومستَقرِّه، وبالتالي تكون الحياة الدنيا محطة على طريق الآخرة، محطة يتزوَّد منها لآخرته، يزرع هنا ويحصد هناك، يعمل هنا وينال جزاءه هناك، ولو فُرِضَ أن دار الأمر بين عِمارته لدنياه أو عِمارته لآخرته، فإنه يختار عِمارة الآخرة على عِمارة الدنيا، لكن الإسلام لا يرى تناقضاً بين العالَمين بل يراهما متكاملين أحدهما في طول الآخر، أحدهما مقدِّمة للآخر، كل عمل يعمله المَرءُ في الدنيا هو عمل للآخرة إذا كان مطيعاً فيه ومتقرِّباً به إلى الله تعالى، فالإسلام يضع أهمية كبيرة على ما بعد الحياة الدنيا، حيث يُعد ذلك الهدف النهائي الذي يسعى إليه المؤْمِن، وبهذا يبني دنياه ويبني آخرته.
وعليه فالمقصود بإصلاح المعاد هو الاهتمام بالعمل الصالح والسَّعي إلى التقرُّب إلى الله من خلال إطاعة أوامره واجتناب نواهيه، لأن هذه الأعمال هي التي ستحدِّد مصير الإنسان في الآخرة، وإصلاح المعاد يشمل كل ما يقوم به الفرد من أعمال نابعة من نية صادقة تهدف إلى مرضاة الله وطلب النجاة في الآخرة.
وكما ترى قارئي الكريم فإن عبارة الإمام أمير المؤمنين (ع) "لَيْسَ مُؤْمِناً مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِإِصْلاحِ مَعادِه" تربط بين الإيمان والعمل على إصلاح المعاد. فهي تؤكد أن الإيمان الصحيح لا يقتصر على المعتقدات القلبية فقط، بل لا بد أن يظهر هذا الإيمان في أفعال الإنسان التي تُسْهِم في إصلاح حاله في الآخرة، فمن لا يهتم بإصلاح معاده من خلال الأعمال الصالحة والسعي إلى النجاة في الآخرة، فإن إيمانه ناقص أو غير كامل.
إن الذي لا يهتم بإصلاح معاده يتصف بالغَفلة عن الآخرة، وهي حالة تحذر منها النصوص الإسلامية، والغَفلة تعني الانشغال بالدنيا وملَذَّاتها دون الاكتراث بما سيحدث في الآخرة، مِمّا يؤدّي إلى إهمال العبادات والواجبات. وهذا يتنافى مع مفهوم الإيمان الكامل، لأن الإيمان الصحيح يجب أن يدفع صاحبه إلى العمل الدؤوب للاستعداد للقاء الله.
أما عن الأثر العملي لقوله (ع): "لَيْسَ مُؤْمِناً مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِإِصْلاحِ مَعادِه" فهو:
أولاً: تحفيز المؤمن على العمل، وتحذّيره من الركون إلى الدنيا وقَصْرِ نظره إليها وحدها دون الآخرة، وتحثُّه على العمل الجاد لإصلاح معاده.
ثانياً: تحذير المؤمن من خطورة الغَفلة والانشغال بالحياة الدنيا على حساب الحياة الآخرة.
ثالثاً: تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة، فالإسلام يدعو إلى تحقيق التوازن بين الحياة الدنيا والآخرة، فالعبارة لا تعني إهمال الدنيا تماماً، بل الاهتمام بإصلاح المعاد من خلال الأعمال الصالحة التي هي بحد ذاتها عمارة للدنيا.
رابعاً: حَثّ المؤمن على السَّعي المُستَمِرّ نحو تحقيق الأفضل في حياته الروحية والدنيوية، ودعوة له إلى تحمل المسؤولية عن الأعمال التي تؤدي إلى حياة كريمة في الآخرة، ورسالة للتحلي بالصبر والمثابرة في العمل الصالح.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: