
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لَمْ يَسُدْ مَنْ افْتَقَرَ إِخْوانُهُ إِلى غَيْرِه".
وتدلُّ هذه الجوهرة الكريمة دلالة عميقة على واحدٍ من الأسباب المُهمَّة التي تُفقِد الشخص أهلية أن يكون سيَّداً في الناس ومرجعية قيادية لهم، وتمنعه من أن يتبوأ لنفسه مكانة اجتماعية مؤثِّرة في محيطها الاجتماعي، وتدل بمفهومها أن الشخص الذي يقوم على خدمة الناس، والسَّعي في حوائجهم، والاهتمام بشؤونهم، وحمايتهم من الأخطار، والذود عنهم وعن كرامتهم، والنُّصح لهم، هو الجدير بالسيادة فيهم، وقيادتهم، وأن يكون المرجعية التي يرجعون إليها فيما يعجَزون عنه.
إقرأ أيضاً
وليس بالضرورة أن تكون حاجتهم إليه مادية، فقد يحتاجون إلى علمه، وفكره، ورأيه، وبصيرته، وفَهمه العميق للأمور، وإرشاده، وحُسن تدبيره، وحَلِّ المعضِل من أمورهم، وقد يحتاجون إلى بيانه المتين، وبراهينه الساطعة، وشجاعته في الدفاع عن حقوقهم، ووساطته لهم، وسوى ذلك مما يرجع فيه الناس إلى الخبير العليم، والنبيه الذكي، والمُدّبِّر الحاذق، والوجيه صاحب الكلمة المسموعة، والرأي المحمود، وبالجملة: يجب أن يتمتع الشخص بصفات شخصية وقيادية حتى تتوجَّه إليه أنظار الناس وآمالهم، ويكون معقد رجائهم، فيتوِّجوه مَلِكاً في قلوبهم، قبل أن يكون سيِّداً فيهم.
أما الشخص الذي يعتمد إخوانه وأهله وأتباعه على غيره في حاجاتهم لا يستطيع أن يكون سيداً أو قائداً حقيقياً، فإن السِّيادة الحقيقية تتطلب الاعتماد الذاتي لأتباعه عليه واستقلالهم عن الآخرين، مما يعزِّز مكانته كقائد وسيِّدٍ فيهم.
هذا ما يُفسِّر لنا نجاح أفراد في بلوغ القِمَّة في المكانة الاجتماعية، وإخفاق كثيرين في بلوغها، فإن السيادة الحقيقة، السيادة في القلوب، والمكانة الاجتماعية في النفوس ليست هِبَة يتلقّاها المَرء من أحد، إنما يفوز بها من يكون جديراً بها، يفوز بها الذي يتمتع بصفات نفسية وعلمية وأخلاقية وقيادية، إنك قد تمنح شخصاً منصباً قيادياً رفيعاً في الشركة التي تملكها، وتدعمه بقوانين ومقررات تعينه على النجاح في مَهمَّته لكنه يفشل في قيادتها، ويفشل في استمالة قلوب موظفي الشركة إليه، فقد يتعاملون معه باعتباره أمراً واقعا فُرِض عليه، وقد يتزلَّفون إليه، وقد يخضعون لأمره حفاظاً على مناصبهم أو وظائفهم، لكنهم لن يفتحوا له قلوبهم، لن يحبُّوه، لن يمنحوه مرتبة السيادة عليه، هذا يفشل بالتأكيد، فقد ثبت في الإدارة أن القائد الناجح هو الذي يحبه أتباعه، بحيث يؤثر فيهم بشخصه لا بموقعه الإداري، المدير الذي يعتمد على سلطته القانونية لا يكون مؤثِّراً في النفوس، ولا سيِّداً عليها، أما المدير الذي يجتذب أتباعه إليه بصفاته وسماته القيادية فهو القائد الحق الذي يتقدَّم بشركته أو جماعته.
والشخص لا يمكن أن يكون سيداً، أو قائداً، إذا كانت جماعته أو أتباعه بحاجة إلى الغير للحصول على ما يحتاجون إليه معنوياً قبل الأمور المادية، والقائد السَّيِّد المثالي هو من يحتضن أتباعه، ويحمل همَّهم، ويُجَنِّبهم الحاجة إلى اللجوء إلى الآخرين. وهذا ما اتصف به رسول الله (ص) فيما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم إذ قال: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"﴿128/ التوبة﴾ إن هذه الآية الكريمة تذكر بعضاً من أهم الصفات القيادية التي اتصف بها رسول الله (ص) والتي يجب أن يتصف بها من يطمح أن يكون سيِّداً في قومه وقائداً لهم.
إن الآية تقول: لقد جاءكم رسول (من أنفسكم) ولم تقل: جاءكم رسول منكم، إن عبارة من أنفسكم ذات دلالة عميقة على الصِّلة التي بين رسول الله والناس، وتدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به، فهو منهم، ليس فرداً من جماعتهم، لا، بل هو من أنفسهم، هو بَضْعَة منهم، هو جزء من ذواتهم، كأنه القلب منهم، كأنه الروح منهم، صلته بهم صلة النفس بالنفس، والقلب بالقلب، والمشاعر بالمشاعر، ولذلك يَعزُّ عليه عنَتَهم وتعَبَهم ومشقتهم، يَتعَب لتعبهم، ويُحزِنُه ما يُشقيهم، وهو حريص عليهم، حريص على نفوسهم وأموالهم، ودنياهم وآخرتهم، حريص عليهم لا يُلقي بهم في المَهالِك، ولا يدفع بهم في المَهاوي، رحيم بهم، عطوف عليهم، فإذا هو كلَّفهم بتكليف فيه مشقَّة ومتاعب فما ذلك من هوان بهم عليه، ولا بقسوة في قلبه الشريف، إنما هي الرَّحمة في صورة من صورها، الرحمة بهم من الذُّلِّ والهَوان، والرحمة بهم من الذنب والخطيئة، والحرص عليهم أن يكون لهم شرف حمل رسالة الله، وطاعته، ونيل الحظ من رضوانه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي