
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلى كَدِّه صَبَرَ عَلى الإفلاسِ".
معادلة تختزل دروساً عظيمة في أهمية السَّعي والعمل الجاد، والصبر على مشاق الحياة، وتتجلى في دعوتها إلى تحمُّل عناء الكدح والعمل كوسيلة لتحقيق النجاح وتجنُّب الإفلاس الذي لا يعني فقط الفقر المادي، بل يمتد ليشمل الإفلاس في مختلف الصعد.
لقد أولى
القرآن الكريم أهمية كبرى لِسَعي الإنسان وكَدحه وكَدِّه، واعتبره السبب الأهم لنجاح الإنسان في دنياه وآخرته، وأعطى العمل قيمة كبرى، وجعله مكوِّناً أساسياً من هويته وكرامته، فبه تتحقق أهدافه، وبه يبلغ غاياته، وبه يمتاز الناس ويتفاضلون، وهو العامل الأساس الذي يفرق بين الناجحين والفاشلين في الحياة قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" ﴿المُلك: 2﴾ وقال تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41﴾ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ ﴿النجم: 42﴾.
إقرأ أيضاً
وقد أمر الله تعالى بالسَّعي في الأرض والمشي في مناكبها طلباً للرزق، والمعرفة، والتنمية، والتطوير، واستثمار الخيرات والثروات التي أودعها الله فيها، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"﴿المُلك:15﴾.
ودعانا سبحانه إلى مواصلة السعي الدائم لتوفير حاجاتنا المعنوية والروحية والمادية، وتحقيق أهدافنا الدنيوية والأخروية، فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿9﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿الجمعة: 10﴾.
فالسَّعي إلى ذكر الله وأداء الصلاة تكليف إلهي يرجع مردوده الروحي إلى الساعي المُصلّي الذي يحتاج إلى ذكر الله والارتباط به، والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله أيضاً يرجع مردوده إلى المنتشر الباغي لفضل الله لتوفير حاجاته المادية المختلفة، وبهذا يوازن المرء بين عمله لدنياه وعمله لآخرته، وبين حصوله على حاجاته المعنوية، وحصوله على حاجاته المادية.
فالسَّعي والكدح ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو تعبير عن الامتثال لأوامر الله، وتحقيق للهدف الأسمى للحياة وهو البناء والإعمار، والنجاح لا يأتي بالراحة والتمَنَّي، بل بالعمل المتواصل والاجتهاد، والكدح يتطلَّب الإصرار والتخطيط.
والسَّعي الجادُّ يوفِّر الاستقلال المالي، ويجنِّب الإنسان الحاجة إلى الآخرين، وقد جاء في الحديث الشريف: "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ".
ولا جدال في أهمية الصبر على المتاعب والمصاعب التي تواجه الإنسان في سعيه لتوفير حاجاته وتحقيق أهدافه، فالصبر مفتاح لتحقيق جميع ذلك، لأن المشكلات والتحديات والصعوبات والمتاعب جزء طبيعي من أي عمل، والصبر هو الذي يتيح للإنسان التغلب عليها.
والصبر على السَّعي يضمن للإنسان كسب رزقه بكرامة، ويمنحه القدرة على تحمل الخسائر المؤقتة، والعمل لتعويضها وتحقيق النجاح، وبالصبر يتعلم مهارات جديدة، ويطوِّر نفسه باستمرار، وبه يتجنَّب الإفلاس.
يؤكد الإمام (ع) أن الإفلاس نتيجة حتمية للتقاعس عن العمل والسَّعي، والافلاس لا يقتصر على الإفلاس المادي المالي، بل يمتد ليشمل ضعفاً في الطموحات، وافتقاراً للمعرفة والخِبرة، وحاجة دائمة إلى الآخرين، وتبعية لهم، واعتماداً دائماً عليهم، ناهيك عن الفشل الذي يصاحب الإنسان مدى حياته.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: