
معادلة أخرى تربط بين اعتزال الناس وبين سلامة الدين والنفس، وذلك حينما تكثر الفتن في المجتمع، سواء كانت فتَناً اجتماعية أو سياسية، أو كانت عَقدية أو فكرية أو أخلاقية، تهدد دين الإنسان وأخلاقه، وكان عاجزاً عن مواجهتها، أو عن التأثُّر بها، أو الخروج سالماً منها.
العزلة في الأصل تعني الابتعاد الجسدي عن الناس لفترة وفي ظرف معين، وفي الإسلام، العزلة لا تُفهم على أنها هروب دائم من المجتمع، بل هي حالة مرتبطة بظروف خاصة تهدف إلى تحقيق غايات أخلاقية وشرعية مثل حماية النفس والدين من الفتن، أو التفكُّر والتَّأَمُّل والتقرب إلى الله، أو تجنُّب أذى الناس.
فلا تقتصر العزلة على الابتعاد الجسدي عن الناس، -فهذا واحد من مظاهرها، قد يلجأ إليه الإنسان في بعض الأحايين للتأمُّل والتفكُّر بعيدا عن ضوضاء المجتمع وهياجه- بل تشمل الأهمَّ من ذلك وهو: العزلة الفكرية، والتي تتمثل في الابتعاد عن الأفكار الفاسدة والمُضَلِّلَة التي تؤدي إلى الانحراف والضلال عن العقيدة الصحيحة. والعزلة الاجتماعية وتتمثَّل باجتناب مجلسة أهل السوء، والبدع، والفسق، من الذين ينشرون الفساد والضلال، ويغرقون في المعاصي. والعزلة عن الفتن وأهلها.
ولا جدال في أن الأصل لدى المؤمن هو الانخراط في المجتمع، وتحمل مسؤولياته تجاهه، وحمل الحق والدعوة إليه والدفاع عنه، وإذا كان عالما فعليه أن يُظهِر علمه في مواجهة الفساد، والضلال، والبدع، والفتن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعليه: فإن قول الإمام (ع): "مَنِ اعْتَزَلَ سَلِمَ" لا يريد منه العُزلة المطلقة، أو العزلة الدائمة في أي ظرف وحين، إنما هي عُزلة مدروسة في ظروف خاصة حين تكون هي الخيار المتاح للنجاة بالدين وسلامة الإيمان والمحافظة على الالتزام الأخلاقي.
ومن المعلوم أن الإسلام دين يوازن بين الفرد والمجتمع، فلا يحثُّ على الانعزال الدائم عن المجتمع ولا على الانخراط غير الواعي فيه، بل يوجِّه المؤمن إلى ما فيه خير دينه ودنياه.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: