ایکنا

IQNA

زغلول النجار.. العالم الذي جمع بين الإيمان والعلم

14:11 - November 10, 2025
رمز الخبر: 3502371
إکنا: رحل أمس الأحد إلى رحمة الله تعالى العلّامة الكبير أ.د. زغلول راغب النجار، أحد أبرز الوجوه العلمية والدعوية في العالم الإسلامي، ليترك برحيله فراغًا واسعًا في ميادين قلَّ أن يجتمع أثرها في رجل واحد: ميدان العلم الأكاديمي، وميدان الدعوة، وميدان الإعجاز العلمي الذي ارتبط اسمه به في الوعي العام.

ولم يكن الدكتور زغلول مجرد متحدث في الإعجاز العلمي للقرآن، بل كان مدرسة متكاملة أعادت لهذا الحقل منهجيته وانضباطه، وصاغت قواعد التعامل معه بعيدًا عن التساهل والتكلف.
 
يحظى الدكتور النجار بمكانة خاصة في الوعي الإسلامي المعاصر؛ فهو من الذين استطاعوا أن يقدموا القرآن الكريم والسنة الشريفة بلغة العلم، وأن يردموا الفجوة بين المختبر وهدايات الوحي، وأن يجعلوا للعلم الحديث أبوابًا مشرعة نحو الإيمان.

كان حضوره في الفضائيات والمؤتمرات والدروس العلمية مؤثرًا وواسع الأثر، التفَّ حوله ملايين المتابعين من مختلف البلاد، لما وجدوا في علمه صدقًا، وفي خطابه قوة، وفي أسلوبه سلاسة ووضوحًا.

وبوفاته تطوي الأمة صفحة عالمٍ حمل الإعجاز العلمي مسؤوليةً لا موضوعًا، وبذل عمره في الدفاع عن صدق الوحي، وإظهار سبق القرآن والسنة النبوية إلى حقائق الكون والحياة والإنسان. إنها خسارة علمية ودعوية فادحة، لكنها تذكّر بضرورة حفظ تراثه والاعتناء بمدرسته ومواصلة الطريق الذي شقَّه بجهدٍ وصبرٍ وإيمان.
 
بطاقة حياة.. المسيرة التي صنعت هذا الرجل

وُلد الدكتور زغلول راغب النجار في قرية مشال بمركز بسيون – محافظة الغربية يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1933م، في أسرةٍ متمسكة بالقرآن؛ فجده إمام القرية، ووالده من حفظته، حتى كان – كما يروي – يصحح له وهو نائم.
 
أتمّ حفظ القرآن صغيرًا، وانتقل مع والده إلى القاهرة حيث بدأ تعليمه النظامي، فكان من المتفوقين في الابتدائية، ثم برز في ثانوية شبرا حتى حصل على المركز الأول في مسابقة اللغة العربية متقدمًا على معلمه.
 
والتحق بكلية العلوم بجامعة القاهرة وتخصّص في الجيولوجيا بقسم حديث الإنشاء، وتخرج عام 1955م حائزًا مرتبة الشرف الأولى، فحصل على جائزة بركة لعلوم الأرض وكان أول من نالها. إلا أن نشاطه العام واعتقاله بعد التخرج حالا دون تعيينه معيدًا، فتنقّل بين شركات البترول ومناجم الفوسفات والذهب ثم وادي النيل وسيناء، قبل أن يكسب قضيته ضد الجامعة لتعيينه، فعمل عامًا واحدًا ثم فُصل بقرار سياسي جديد.
 
شقّ طريقه العلمي في الخارج، فحصل على الدكتوراه من جامعة ويلز عام 1963م، ثم زمالتها وعدد من المنح والجوائز العلمية.
 
تدرّج بعدها في الجامعات العربية والعالمية (عين شمس، الرياض، الكويت، قطر، الملك فهد للبترول، ويلز، كاليفورنيا)، حتى شغل رئاسة أقسام الجيولوجيا وأسّس بعضها، وأشرف على أكثر من 35 رسالة ماجستير ودكتوراه.
 
امتد عطاؤه الدعوي من كندا إلى أستراليا، ومن أميركا إلى جنوب أفريقيا، خطيبًا ومحاضرًا في الإعجاز العلمي.

توفي رحمه الله في عمّان يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2025م، وصُلي عليه في مسجد أبي عيشة ودُفن في مقبرة أم القطين، مودَّعًا بمحبة واسعة في العالم الإسلامي.
 
مشروعه الفكري والدعوي.. مدرسة علمية وحضارية متكاملة

لم يكن الدكتور زغلول النجار مجرد باحثٍ في الإعجاز العلمي، بل كان صاحب مشروع فكري ودعوي متكامل نهض على ركيزتين:
 
ضبط المنهج العلمي في التعامل مع القرآن.
توجيه طاقات العقل الحديث نحو الإيمان الحق.

ومنذ بداياته وضع أسسًا صارمة للإعجاز العلمي، فميّز بين الحقائق والنظريات، وبين الإشارات القرآنية والتكلّف العلمي، مؤكدًا أن القرآن كتاب هداية لا كتاب علوم، وأن مهمة الباحث هي إظهار ما يوافق الحقائق لا ليَّ أعناق النصوص.
 
بهذا أعاد إلى الإعجاز العلمي رصانته بعد موجات الإفراط والتفريط، وربط بين البرهان التجريبي واليقين العقدي ربطًا أحيا الثقة بالنص المقدس.
 
وقد حمل هذا المشروع إلى العالم عبر عشرات البرامج التلفزيونية التي شكّلت وعي أجيال كاملة؛ فكانت مشاركته مع أحمد فراج في "نور على نور" بابًا أوليًّا لانتشار الإعجاز العلمي، ثم جاءت حلقته الشهيرة مع أحمد منصور في "بلا حدود" لتكون علامة فارقة نقلت هذا العلم من الهامش إلى الوجدان العام.
 
وجاب القارات شرقًا وغربًا محاضرًا ومناظرًا ومبشّرًا، فأسلم على يديه باحثون وعلماء، وشهد رفقاؤه بذلك في محطات عديدة من جولاته الدعوية.
 
ولم يكن مشروعه العلمي قائمًا على الحماس، بل حملته موسوعات كبرى أرست مدرسة كاملة في التفسير العلمي، في طليعتها:
 
الموسوعة الميسّرة للإعجاز العلمي (5 مجلدات: السماء، الأرض، الإنسان، الحيوان، النبات).
موسوعة تفسير الآيات الكونية (4 مجلدات).
موسوعة من آيات الإعجاز العلمي (3 أجزاء – قدّم لها الإعلامي أحمد فراج).
موسوعة الإعجاز الإنبائي والتاريخي التي تتبّعت أكثر من مئة نص قرآني تُظهر سبق القرآن للأحداث وتوافقه مع المكتشفات الأثرية والتاريخية.

وبرز ضمن مشروعه كتابان تركا أثرًا خاصًّا:
 
«مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي» الذي أسس فيه هذا العلم أكاديميًّا.
«خواطر في معية خاتم الأنبياء» الذي كشف عن الجانب الوجداني التربوي في شخصيته.

كما قدّم مؤلفات فكرية تتجاوز الإعجاز إلى رؤية شاملة للإسلام كدينٍ ورسالةٍ وحضارة، منها: «رسالتي إلى الأمة»، «علوم الأرض في الحضارة الإسلامية»، «الحضارة الإسلامية وأثرها في النهضة المعاصرة»، «قضية التخلف العلمي والتقني»، «نظرات في أزمة التعليم»، «الإسلام والغرب في كتابات الغربيين»، و«ماذا بعد ربيع الثورات العربية؟».
 
وهكذا يتجاوز مشروع الدكتور زغلول النجار حدود الإعجاز العلمي إلى أن يكون مشروعًا حضاريًّا كبيرًا، يجمع بين العالم المتخصص، والمفسر المتدبر، والداعية المبشر، والمفكر الذي يرى الإسلام طريقًا لنهضة الإنسان وبناء الأمة.
 
خصائص منهجه العلمي ومسلكه الدعوي

تميّز الدكتور زغلول النجار بمنهجٍ يجمع بين صرامة الباحث وروح الداعية، وبين دقة المختبر وحرارة الإيمان.
 
انطلق من رؤية تقيم جسورًا بين العلم التجريبي والعقيدة، مؤكدًا أن القرآن لا يناقض حقيقة علمية قطعية، وأن الوحي والعلم آيتان من آيات الله في الكون.
 
كان صارمًا في الضوابط؛ لا يقبل من الإعجاز إلا ما ثبت بالدليل، ولا يسمح بتفسيرٍ يحمّل النص ما لا يحتمل، رافضًا الإفراط الذي يسيء إلى القرآن والتفريط الذي ينكر إشاراته الكونية.
 
امتاز خطابه الدعوي بالوضوح والبساطة والقوة؛ فأسلوبه قريب، وعبارته محكمة، وحجته متماسكة، مما مكّنه من مخاطبة المتخصصين وعموم الناس معًا.
 
وقد عُرف بثباته في المواقف السياسية والدعوية، خصوصًا تجاه قضية فلسطين، بعيدًا عن المواربة أو التلوّن.
 
وعلى الرغم من شهرته الواسعة بقي متواضعًا زاهدًا، يرى العلم رسالة لا وسيلة، والدعوة واجبًا لا مهنة.
 
آفاق البحث ووداع يليق بالرجل

يترك رحيل الدكتور زغلول النجار مجالًا رحبًا للباحثين ليواصلوا البناء على الأساسات التي أرساها في الإعجاز العلمي والتأصيل الإسلامي للمعرفة. فقد خلّف تراثًا ثريًّا يصلح منطلقًا لعشرات الرسائل العلمية، خصوصًا في ضوابط الإعجاز التي شدد عليها.
 
تُعد موسوعاته الكبرى مادة ممتازة لدراسات تحليلية ونقدية، يمكن أن تُبنى عليها برامج أكاديمية متخصصة في التفسير العلمي والعلوم الكونية. ويظل رصد تطور منهجه عبر كتبه ومحاضراته، وفهم علاقته بالعلوم التجريبية، مشروعًا علميًّا مهمًّا للأجيال القادمة.
 
يمضي الدكتور زغلول النجار إلى ربه، وتبقى سيرته علامة مضيئة في تاريخ الإعجاز العلمي والدعوة في العصر الحديث. لم يكن مجرد باحث أو أستاذ، بل مدرسة تمشي على الأرض، تجمع بين نور العلم وهدي الوحي، وتبثّ رسالة القرآن بلغة العصر: لغة الدليل والبرهان.
 
أعاد لهذا العلم وزنه وهيبته، فوضع ضوابطه ونقّى مساره وربطه بالعقيدة والمنهج، حتى أسلم على يديه كثير من الباحثين، وترك بصمة لا تُنسى في وجدان الأمة.
 
وها نحن نودّعه لا بوصفه فردًا، بل مشروعًا حضاريًّا متكاملًا وهب عمره للقرآن، وعلّم الناس أن الكون كتاب من آيات الله.

نسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، ويرفع درجته، ويجعل علمه نورًا يجري في صحيفته إلى يوم الدين. ويبقى الواجب أن تُجمع مؤلفاته وتُحقق وتُبنى عليها برامج علمية تحفظ منهجه وتراثه، ليظل أثره ممتدًا في أجيال المستقبل.
 
توفي  العلّامة الكبير أ.د. زغلول راغب النجار(رحمه الله) في العاصمة الأردنية عمّان يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2025م، وصُلي عليه في مسجد أبي عيشة ودُفن في مقبرة أم القطين، مودَّعًا بمحبة واسعة في العالم الإسلامي.
 
المصدر: aljazeera.net
 
بقلم الأكاديمي المصري، وأستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية "وصفي عاشور أبو زيد"
captcha