وقال تعالى في محكم كتابه: "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن،هدًى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان…".فالصائم لا بد أنه استحضر شيئًا من كلمات الله تعالى،ويكفيه فعلًا أن يعيَ حقيقة ما تعنيه الهداية والفرقان،فإذا وعى ذلك صح صومه،وزكت نفسه،لأن شهر رمضان بما يشتمل عليه من فرص لبعث الحياة،هو شهر الشفاء والزكاة والفوز بالرضوان.
وقد قال النبي(ص):"لكل شيء زكاة،وزكاة الأبدان الصيام…".إنه شهر الله تعالى،ومن خلاله يحسن الخطاب والكلام والتوجه الخالص في عبادة الله.فالصوم فيه ليس مجرد إمساك عن طعام أو شراب،ففي هذا كله فيما لو أتى به الصائم صحيحًا،زكاة للبدن؛ولكن ماذا عن صيام الروح وطهارة القلب ونور الهداية،والتفريق بين الحق والباطل؟كم هو جميل أن يتوجه الصائم قبل عيد الفطر ،بالسؤال إلى نفسه،عن ما استحضره في أيام وليالي هذا الشهر؟وكيف تعايش معه،بعيدًا عن طيب الطعام،ولذة الشراب؟فهل نظر الإنسان فيه إلى طعامه الروحي،كما نظر إلى طعامه المادي؟أليست الروح بحاجة إلى مثل هذا التساؤل؟ فلماذا نتخيّر في الأطعمة المادية،ولا نفعل ذلك في الأطعمة الروحية والفكرية؟إن معنى الصوم هو هذا،أن يكون لبدنك وروحك وكل جوارحك،نصيب ُمن هذا الصوم،حتى نفوز بشيء من الهداية والفرقان.
إقرأ أيضاً
ونعلم أن المائدة الحقيقية في صوم هذا الشهر المبارك،هي القرآن الكريم،الذي يعلمنا كيف نصوم،وكيف نهتدي؟فهو شهر حاكم على كل الشهور،ونوره ساطع على كل الأنوار،ويكفي الصائم فيه أن يعلم،أنه لا واسطة بينه وبين ربه في كل ما يتوجه به إليه،ويسأله إياه،بدلالة قوله تعالى:"وإذا سألك عبادي عني،فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان…"،فهذه الآية جاءت في سياق آيات الصوم في القرآن،ولم تأتِ بصيغة مشابهة لكل سؤال فيه،فكل آيات السؤال وردت بصيغة يسألونك،ثم تخاطب النبي(ص):"فقل إلا هذه الآية،فهي لم تجعل من النبي وسيطًا للإجابة،وقالت:فإني قريب..فلم يتوسط النبي بين العباد وسؤال ربهم،ليكون الدعاء مباشرًا ومقبولًا،تفضلًا من الله ورحمة،وهذا أشبه ما يكون بالموعد الخاص والتشريفي للعباد،ويوجد في الآية من القرب والقبول ما يوحي بالأنس،لجهة ما تنطوي عليه من رأفة ورحمة ومبادرة باتجاه العباد.ولا شك في أن هذه الخصيصة الرحمانية للعباد ليست الوحيدة في القرآن الكريم،بل يوجد مثلها في آية حشر المتقين إلى الرحمن وفدًا،بعد أن يكونوا قد دخلوا الجنة زمرًا..!فيا لها من التفاتة إلهية عظيمة أن يتوافد أهل التقى للقاء خاص في حضرة القدس،ليفوزوا بلقاء الأنس والقرب!؟
فالدعاء في شهر رمضان له هذه الخصوصية،أن يطلب الصائم ما يشاء من ربه في لحظة قربه وسؤاله.فإذا تدبّرنا بحقيقة ما أورده القرآن عن الدعاء في شهر رمضان،وما يكون للصائم من إجابة،فإن ذلك من شأنه أن يورث الاطمئنان بأن الدعاء مستجاب،ومن يحسن الظن بالله تعالى له خصوصية تلمس الإجابة من ربه،ألم نلحظ كيف أن النبي يعقوب حينما جاءه الرسول بقميص يوسف،قال:"إني لأجد ريح يوسف…"،فهو لحسن ظنه بالله تعالى وجد الريح بعد أن كان ضائعًا!؟فلنعمل لأجل أن نكون ممن يحسن الصيام والقيام والدعاء والظن،علنا بذلك نفوز بنعمة الهداية والفرقان.
فالله يدعونا في شهر رمضان إلى مائدة رحمانية للفوز والأنس بالقرب من حضرة القدس.والشقي الشقي هو مَن حُرم الغفران في هذا الشهر المبارك…والحمد لله رب العالمين،وكل عام وأنتم بخير.
بقلم أ.د.فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية