ولا شك في أن الثورة الإسلامية في إيران، وإن لم تكن بدعًا من الثورات العالمية إلا أنه يبقى لهذه الثورة ما يميّزها في الدوافع والأهداف، وهذا ما أشار إليه مؤسس الثورة الاسلامية الايرانية وقائدها الإمام الخميني"قده" بقوله: "لا ينبغي الشك أبدًا في أن الثورة الإسلامية في إيران تختلف عن جميع الثورات في التكوّن، وفي كيفية الصراع والمواجهة،وفي دوافع الثورة والنهضة. ولا ريب أبدًا في أنها نعمةٌ إلهيةٌ، وهديةٌ غيبية من قبل الله تعالى تلطّف بها على هذا الشعب المظلوم المنهوب".
إنها ثورة إسلامية متميّزة في ما انطلقت منه، وعبرت عنه، وسر الامتياز هذا يكمن أولًا وأخيرًا في الإسلام الذي وجد فيه الشعب المسلم في إيران حريته وكل المباديء والأهداف والتعاليم القادرة على إحداث التغييرات الجذرية في حياة الناس وتوجهاتهم الدينية والسياسية وكل ما يحتاجون إليه، لبعث حياتهم من جديد.
فهذه الثورة،كما يقول العلامة مطهري رحمه الله: "لا توجد نهضة في أي بلد من بلدان العالم مثل نهضة الشعب الإيراني، فهي بدأت منذ انتفاضة حزيران ١٩٦٣م، ولا تزال تتوّسع وتتعمق…". لقد مرت عقود من الزمن على انتصار الثورة الإسلامية، وتعرّضت لمشاكل وأزمات كثيرة، بما في ذلك العدوان عليها من قبل قوى الشر في العالم،غربًا وشرقًا، ويكفي تدليلًا على ذلك ما فرض عليها من حروب بعد انتصارها مباشرة،سواء من الداخل عبر العملاء أو من الخارج.
إقرأ أيضاً:
كما جرى حينما اجتمعت الأحلاف ضدها في الغرب والشرق خصوصًا حلفي" وارسو والناتو في زمن ما كان يسمى بالجبارين في حينه، وقد طالت الحرب لسنوات بهدف إخراج الثورة عن مسارها،وللحيلولة دون ظهور أنموذجها الإسلامي المستقل! وكم هو مفيد هنا أن يستذكر الشعب الإيراني المسلم وكل أحرار العالم معنى صمود هذه الثورة في مواجهة طواغيت العالم،كونه لا ينبغي السهو أو النسيان أو التغاضي عن ما تملكه هذه الثورة من قدرات روحية ونفسية لتستمر في تعمقها وتوسعها رغمًا عن أنوف المستعمرين الذين اعتادوا على استيعاب الثورات في مهدها ليحولوا بينها وبين التعبير عن حقيقة ما تلتزم به من مباديء وأهداف!
إن ما نحتاج إليه في واقعنا المعاصر، وفي ظل معايشة أزمات كبرى يفتعلها الاستعمار لإجهاض الروح الثورية لدى الشعوب الإسلامية،هو وعي خطورة المرحلة،وتداعيات الأحداث للحفاظ على ما حققته الثورة من مكاسب في صراعها مع المستعمر،لأن مَن خاض الحروب،وجاهد بالنفس والمال، وقدم الشهداء في سبيل الحرية والاستقلال،لا ينبغي أن يسقطه الحصار الاقتصادي والتآمر الدولي حتى يحال بينه وبين أن تكون له الكلمة المستقلة في إدارة شؤون بلاده أو في التعبير عن نفسه وفق مبادئه وغاياته النبيلة.
إذ إنه من طبيعة طلب الحرية والاستقلال أن يكون الشعب صابرًا ومجتهدًا في تحصيل ما يلزمه في الصراع مع الأعداء، وفي تحصين نفسه بكل عناصر القوة، وإلا توقف عن أن يكون له حضوره الفاعل والمميّز في عالم متغيّر ويشهد تحولات عظمى تستهدف في ما تستهدفه،أن تبقى إيران الإسلامية ضعيفةً وغير قابلة للتعمق والتوسع،كما قال مطهري! لذا،فإن نعمة الثورة الإسلامية تبقى كامنةً في جوهر ما ينطوي عليه الشعب الإيراني من إرادة وصبر في مواجهة الحصار!
فالإمام الخميني الذي رأى ببصيرته وبما استشرفه من مكامن القوة الثورية لدى الشعب الإيراني لا يقبل أن تخضع إيران لأي شرط استعماري فيما يتعلق بقوة إيران العلمية والنووية،بل إننا من خلال خبرتنا الدينية والسياسية بكل تحولات الثورة وما حققته من قوة وصمود، نرى أن الإمام يرفض المفاوضة على أي حق من حقوق الشعب الإيراني كجزء من هذه الأمة التي أراد الإمام لثورته المباركة أن تكون نموذجًا يحتذى في الحرية والاستقلال،وفي مواجهة الطاغوت المستعمر.
نعم،إن إشكالية الموقف مع الغرب تكمن هنا،أن المستعمر لا يزال متأهبًا للنيل من الثورة ومبادئها،ليؤكد للعالم أنه لا توجد نماذج للحياة من خارج إرادته وقوة بطشه،فهو يريد لإيران أن تسقط في ما يفرضه من شروط،ويطلقه من تهديدات،ويعتمده من ضغوطات سياسية واقتصادية!وقد هالنا فعلًا ما سمعناه عن وعود استثمارية للطغاة في إيران،! وهم لم يبرحوا ما اعتادوا عليه من تآمر وعدوانية بشتى الوسائل! فالشعب الإيراني المسلم خسر الكثير في مواجهة الغرب المستعمر، وصبر على كل المحن والمصائب لإعلاء شأنيته الدينية والسياسية والاستقلالية، ووصل إلى مستويات هائلة من التقدم العلمي،هذا الشعب لا يمكنه القبول بالمفاوضة مع الغرب وفق شروطه،وخصوصًا في الجانب النووي الذي يعتبر مفخرةً لهذا الشعب وعلمائه.
فإذا كان لا بد من التفاوض،فليكن على أساس أن إيران هي التي تحدّد طريقة التفاوض ومجالاته وحدوده،وذلك منعًا لأي إبهام،أو التباس،أو سوء فهم لدى مَن سبق لهم أن رأوا تمايز الثورة في أطروحتها الإسلامية المستقلة!وكم هو الكلام كثير وكبير اليوم عن مدى ما حققته هذه الثورة من تمايز إسلامي وثوري في ظل ما يجري من تفاوض مع المستعمر على القوة النووية!
وقد سمعنا للتو ما صرّح به الرئيس الإيراني عن البلطجة الأمريكية في التعامل مع إيران! إن ما تقتضيه مبدئية الموقف،هو عدم التفاوض أصلًا على قاعدة:"إن العزة لله جميعًا".
وإن أحدًا لا يمكنه تظهير الموقف الإسلامي على خلاف مبدأ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين!وهذا ما نراه واضحًا في خطاب الثورة،ولكنه ملتبس في الخطاب السياسي،ولا يفترض بالمناورة السياسية إحداث الالتباس في حقيقة الموقف الثوري من قضايا الأمة ذات المعطى السيادي والمبدئي.
إن إيران النووية اليوم تساوي إيران الإسلامية، فليكن المسؤولون على حذر من ما يسمى بالاستثمار الأمريكي في إيران! فأمريكا التي واجهها مؤسس الثورة الإمام الخميني هي ذاتها أمريكا اليوم، ولم يسبق لمسؤول روحاني أو سياسي حر في إيران أن أحسن الظن بهذا الشيطان الذي نهى الله عن اتباع خطواته،بقوله تعالى:"ولا تتّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين".
بقلم أ.د.فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان