وتُسمع من حين لآخر مناشدات للعرب والمسلمين في العالم، أن يكون لهم موقف إيجابي وعملي، نصرةً للشعب الفلسطيني يتجاوز الإدانة إلى مزيد من الدعم في كل ما تمس الحاجة إليه في مواجهة العدوان الصهيوني، وأن لا يعتبروا أنفسهم في مأمن من مكر الأعداء وتآمرهم على البلاد الإسلامية، شعوبًا وحكامًا، وكما تقول الحكمة: لقد أسمعت لو ناديت حيًا، ولكن لا حياة لمن تنادي.
فالمسلمون الذين يخاطبهم أهل الجهاد والمقاومة في غزة فلسطين يعرفون حدود القدرة المتاحة لهم وأمامهم، وهم لا يدّخرون جهدًا لعقد القمم العربية والإسلامية! وقد شاخ بهم الزمن على طريق إعلان المقررات والإدانات من دون أن تكون هناك أدنى استفادة في نصرة الشعب الفلسطيني لنيل بعض حقوقه!
فإذا كنا نرى العدو لا يقيم وزنًا لأي هتاف، أو اجتماع، ويعود كلما سنحت له الفرصة، وهي دائمًا تتاح له بما يتوفر له من دعم استعماري، إلى التهديد بالحرب والحصار، فلماذا نكلف أنفسنا عناء عقد القمم طالما أن نتائجها ستبقى حبرًا على ورق، ومن دون صدىً يذكر لا في أوساط مراكز النفوذ العالمية، ولا عند الشعوب الإسلامية؟ فالخطاب المتكّرر مع هذه الأمة، ونقول الأمة بما هي اجتماع في الزمان والمكان، لا بما هي أمة دين وموقف وهدف لما يشوبها من تنازع في المصالح والغايات! فهي أمة مترامية من طنجة إلى جاكرتا، ومن المحيط إلى الخليج يخاطبها الشعب الفلسطيني وأحرار الأمة، لتكون في نصرة وجودها قبل نصرة فلسطين. ويتفاءل هذا الشعب علّه يحظى بأمل بتحصيل حق، أو بردع عدوان، ولكن، كما قلنا، لا حياة، ولا أمل، وأنى يكون ذلك، وقد قال تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله…"؟
إقرأ أيضاً
إنها أمة ترقب عطفًا، وتخشى حتفًا، وتدفع أموالها عنوةً، وتستجدي رضىً وحياةً، ويُفتك بها تفريقًا وفتنًا وانقسامًا! فما يكون معنى المناشدة، وقد ملأ القرآن وجودنا بتوصيفات أمم الزمان والمكان، إذ هو يرشدنا إلى أن الأمم الحية، هي الأمم المتصفة بحقيقة الإيمان، والمصنوعة على عين الرحمن، فما بالنا نتجاوز توصيفات القرآن لمن استجابوا لنداء ربهم، ونأمل بسراب الحياة؟ فالأمة التي تسمع وترى وينصرها الله تعالى بإيمانها لها خصوصية قرآنية،وهي أن الله خصّها بالنصرة والرضى، وهو وليها، كما قال تعالى: "والله ولي المؤمنين"، ولا نجد إطلاقًا في آيات ربنا ما يفيدنا في توجيه الخطاب إلى أمة لمجرد كونها مسلمة، فلا بأس أن نتدبّر في آيات ربنا التي تميّز بين أعراب معذّرين وأعراب مؤمنين، لنفهم حالة أمتنا اليوم ومدى ما هي عليه من الوصف، ويكفينا تدبّرًا في قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم…"، ولا زالت هذه الأمة تعيش في ضمير "لما"، ولم تسجّل خرقها الوجودي، لتكون خير أمة أخرجت للناس بالتوفر على الشروط المخصوصة بذلك!
فالقرآن يوصّف لنا مجيء الأعراب، بقوله تعالى: "وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم…"، فهذه أعذار ممتدة في تاريخ أمتنا، وهي أعذار واهية حتمت حسم الموقف القرآني اتجاه مَن لا يتصف بحقيقة الإيمان، ويرفع راية الأعذار ليموت كمدًا في وضح النهار. ومن هنا، نرى أنه لا جدوى من تكرار المناشدة للمسلمين أن ينصروا غزة فلسطين، فيا ليتكم قلتم ودعيتم بدعاء نوح(ع): "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر...". فالقرآن يميز لنا بين ما يكون للمسلم في دعواه، وما يكون للمؤمن من نصر وعزة ومشروعية وجود، فقال تعالى: "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين".
وقال تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين." وقال تعالى لرسوله: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين"، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تعد المؤمنين بالعزة والنصر. أما وأن عالمنا الإسلامي يعيش هذا الفراغ القاتل في الرؤية والهدف والموقف، فإنه لا جدوى من مخاطبة، أو مناشدة مَن لا يعرف من الإسلام إلا الإسم، ومن القرآن إلا الرسم، وإلا كيف يمكن لنا فهم، أو تعقّل عدم النصرة للشعب الفلسطيني في ظل دعوى الإسلام والإيمان؟ فلو تدبّرنا في قوله: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين"، لكنا عرفنا معنى التخلي وعدم النصرة لفلسطين، لأنه يستحيل أن يتحقق الإيمان، ولا تكون له أعماله وآثاره بوصفه عملًا كله، فالنصرة دليل على وجود الإيمان، كما وجد في تجربة الرسول ص، وكما وجد في كل من انتصر للشعب الفلسطيني من أحرار الأمة.
أما أن ترفع رايات النصرة، ويكتفى بألفاظ الأسماء من دون المسميات، كأن أكون عطشانًا، وتريد الأمة تحقيق الإرواء بمجرد ذكر الماء من دون تقديمه لرفع الظمأ وإبقاء الحياة، فما يكون معنى الماء؟! إن الله يمتحن هذه الأمة في فلسطين والقدس، ولا بد أن الله ناصر المؤمنين، ومؤيد المظلومين، ولكنه يختبر الناس في ما هم عليه من دعوى والتزام وتحقق إيمان في مواجهة الظلم والعدوان. لقد طالت شكوى فلسطين، وامتدت أمة المسلمين في التاريخ والجغرافيا على أمل وبرجاء أن ينتصر لشعب فلسطين، وكم راهن هذا الشعب على أن يؤيد بالإيمان، وأن يُطعم من زاد الإخوة على حدود محروسة لهوان الزمان؟!
فكم طال الرهان وأمة المليارات تسمع بنداء الحق، وتقابله بالهذيان! فلم يتبق على أهل الشكوى في فلسطين إلا الصبر على البلاء والمقاومة حتى تحرير الأرض وكل المقدسات، عملًا بقوله تعالى: "اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون...". لقد أفادتنا تجارب الأنبياء والأولياء أن التزام الثلة المؤمنة بالحق، والقائمة به، كان دائمًا يُفضي إلى نزول النصر على أهله ومعاقبة الطغاة والمجرمين، بدلالة قوله تعالى: "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آيةً للذين يخافون العذاب الأليم."
لقد فرّقت الآيات بين المؤمنين والمسلمين، فنجى الله المؤمنين، وهلك المسلمون بما دأبوا عليه من الفحشاء والمنكر والمعاصي، نجا نبي الله لوط، وهلكت زوجته وقومه بما عصوا وكانوا يعتدون! إن مناشدة الأمة الإسلامية المترامية في آفاق وجودنا لنصرة غزة وفلسطين، وتحذيرهم مما قد يلحق بهم من بلاءات ومصائر سيئة في واقع كونهم ينتسبون إلى الإسلام، لا يمكن أن يكون ذا جدوى طالما أن الأمة لم تتحقق بالإيمان قولًا وفعلًا، ولا بد أن الله مؤيد أهل الحق ومعزهم، ومخرجهم مما هم فيه من بلاء وضيق أسوةً بمن سبق وانتصر الله لهم ممن آمنوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومضوا إلى نصر، أو شهادة، فإذا كان معنى الإسلام والإيمان أن يترك الشعب الفلسطيني واليمن وأحرار المقاومة من دون سائر الأمة في مواجهة العدوان، فبئس ما يأمر به هذا الإيمان إن كان إيمانًا. والحمد لله رب العالمين.
بقلم أ.د. فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: