لقد أوجز الإمام علي(ع) مسيرة أهل العلم والتقى في ما يسعون إلى تحصيله من علوم، فبيّن لهم حقيقة ما ينبغي أن يكونوا عليه من إشفاق في الطريق إلى السعادة والخلود سواء في الدنيا أو في الآخرة، فالإمام(ع) يوصي العلماء وأهل الاجتهاد بمخافة الله تعالى، لا أن يجهلوا الحكمة من علومهم، وهذا ما بيّنه الله تعالى في محكم كتابه فقال:"إنما يخشى الله من عباده العلماء"، وكما يقول علماء الأصول:"تعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بكون الوصف علة،".
فإذا لم يؤدِ العلم إلى خشية الله تعالى، فلا يكون علماً، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه، فما بال العلماء الذين تسموا بالعلم وليسوا به، قد جهلوا أبسط قواعد التحقق العلمي ليظهروا الجرأة على الله تعالى في ما يقدمون عليه من أعمال، ويؤدونه من وظائف دينية وسياسية، فهل من الحكمة أو من مخافة الله تعالى أن يبايع الشيطان، وكل طاغوت حرصاً على الفوز في الدنيا، طلباً لمغانمها، ورغبةً في تحصيل سلطان أو في الحفاظ عليه!؟كيف نفسر سكوت أكثرية علماء الأمة عن قتل النساء والأطفال في غزة فلسطين أو في لبنان أو في اليمن أو في السودان؟ أم أن هؤلاء العلماء لا يرون ذلك من الحكمة، ولا مما يوجب مخافة الله تعالى!؟
إقرأ أيضاً:
نعم، رأس الحكمة مخافة الله، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، فماذا بقي من العلم والدين والأخلاق، بل ماذا بقي من القرآن الكريم والسنة التي قضى العلماء عقوداً من الزمن في دراستها والاجتهاد فيها! ماذا بقي من كل ذلك، إذا كان قد استحال كل شيء إلى طلب الدنيا ومخافة الشيطان والطاغوت!؟
إنها حكمة الامام علي بن طالب(ع)، يوم قال للناس بكل إشفاقٍ ومهابة وزهدٍ بمتاع الدنيا:"أتنتظرون إماماً غيري،يطأ بكم الطريق،ويرشدكم إلى سواء السبيل"، فيا لها من أعجوبة أن يسقط الحكام والعلماء منذ تلك اللحظة المعجزة ليروا كل فتنة وبلاء! فلم يطل الزمان حتى حصل التيه في أمة المسلمين،كما حصل في بني إسرائيل! فإذا كنا نخاف الله تعالى، ونقيم الصلاة، ونذكر الله تعالى ذكراً كثيراً، فلماذا لم نحذر من قوله تعالى:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر،ولذكر الله أكبر،والله يعلم ما تصنعون" وما هي دلالة الصنع هنا في الآية المباركة، أيها العلماء؟ أليس معناه أن الله يعلم حقيقة ما تؤدونه من أعمال، ومطّلع على ما تطلبونه بعلومكم الدينية، وسياساتكم التدبيرية في مجتمعات المسلمين!؟
فالصنع،كما تعلمون هو أخص من العمل، فالنسبة بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق، فإذا كنتم لا تخافون الله، فما يكون معنى إقامة الصلاة؟ وهل من صلاة لمن لم يخشى الرحمن بالغيب، ولم ينتصر للحق بوجه السلطان الجائر،ولم يستجب لدعوة أخيه المظلوم!؟
ويبقى السؤال، ماذا لو سألكم مَن لا دين له في هذا العالم عن ماهية وحقيقة ما نؤديه من عبادات، ونصدع به من مواعظ في النصرة، والحمية، والتقوى، والناس يموتون جوعًا، ويقتلون تحت كل حجر ومدر وشجر؟ فما هو جواب مَن يدّعي خشية الله من علماء الأمة لمن يسألهم عن دينهم وما يقتضيه من صناعة حق في الدين والسياسة؟
إن ما كشفت عنه تجارب الحياة في كل مَن تصدى لشؤون المسلمين، وسكت عن قول الحق، ومشورة العدل، هو الخوف من كل شيء إلا من الله تعالى،فليس ثمة خوف منه!، بل جعل الله تعالى أهون الناظرين إلى أعمالنا! وقد صدق الله تعالى في قوله، وهو أصدق القائلين، وأسرع الحاسبين،حيث قال تعالى: "لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ"،ولسنا نشك إطلاقًا في حقيقة ما يعلمه علماء الدنيا عن مفاد هذه الآية، وما تنظر إليه من معنى في التفكير والسلوك، وقبل ذلك في الخشية من الناس، فليحذر الذين يخالفون عن أمر الله ورسوله، ولتكن لنا مصائر القوم الذين سبقونا في الفتنة أو في العذاب الأليم.والله غالب على أمره،ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بقلم أ.د.فرح موسى، رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان