ويتجه المجتمع بسرعة نحو ارتداء لباس الحقوق، أي: أن كل الظواهر والقضايا والعلاقات والحركات في طريقها لتحديد علاقتها بالحقوق. وعليه يجب أن يسأل حول كل شيء، ما هو حق الإنسان تجاهه؟ وما هو موقعه، حتى يتشكل ويبرز حق الإنسان تجاهه؟
والمياه قضية مهمة وحيوية وحساسة للغاية يجب أن ندرس علاقتها بالبشر من خلال التركيز على حقوقهم تجاهها حتى نتمكن من إيجاد واعتماد السلوك الصحيح والسياسات العقلانية في مجال المياه. إذا لم نوضح موضوع العلاقة بين حقوق الإنسان والمياه من وجهة نظر علمية وبحثية وفقهية، فعوض أن يكون الماء هو مصدر حياتنا -كما هو في جوهره وطبيعته- لا قدر الله سيصبح مصدراً للصراع والنزاع وحتى الحرب.
البحث المقدم أدناه للباحث الايراني في الدراسات القرآنية "آية الله الشيخ أحمد مبلغي" تم عرضه في لقاء علمي عقد قبل أيام بهذا العنوان ونقدم ملخصاً عنه.
️ عناوين ثلاثة:
هناك ثلاثة عناوين إذا تمكنا من فصل هذه العناوين الثلاثة عن بعضها البعض والتركيز على كل من هذه الثلاثة، فيمكننا وضع العلاقة بين حقوق الإنسان والمياه تحت السيطرة العلمية بطريقة مرضية وكاملة ودعنا نضعها في المسار الصحيح للتطور العلمي. وبطبيعة الحال، فإن ما يقدم هو نقطة انطلاق، ومحتوى كثير من هذه المواد مشتت في الفقه أو في الآراء المتخصصة والعلمية، ويجب جمعها وتحليلها بعناية.
وهذه العناوين الثلاثه عبارة عن:
١. حق الماء
٢. الحق في الماء
٣. الأحقية بالماء.
️ توضيح العناوين الثلاثة:
١/. حق الماء:
حق الماء شيء وصلت إليه البشرية الآن، وتعتبره أسمى من أي حق آخر، حتى أن حقه للحياة ينتمي إليه ويتوقف عليه. لقد تعامل الإسلام مع هذه القضية على مستوى قوي منذ البداية، وهو ما انعكس في الحديث النبوي:
«الناس شرکاء في الثلاث الماء والکلأ و النار»
وفي هذا السياق يمكن تقييم وتفسير رواية «الناس شرکاء في الثلاث الماء والکلأ و النار».
شرح هذا الأمر موضح أدناه:
هناك ثلاثة أقوال أساسية تتعلق بهذا الحديث النبوي:
1: يريد الحديث أن يقول إن الماء موضوع يشترك فيه الناس، على غرار شراكتهم في الأرض الموات، في كونه من المباحات الأولية، وهذا رأي كثير من الفقهاء.
وفقاً لهذا الرأي، لا يحمل الحديث أي شيء يتجاوز ما نراه فيما يتعلق بالمباحات الأولية مثل الأرض الموات.
ومشكلة هذا الرأي أنه يخالف ظاهر الحديث؛ إذ أنه بحسب ظهور هذا الحديث، فإن النبي (ص) في مقام إعطاء محتوى جديد بشأن الماء والكلأ والنار، فإذا افترضنا أن الحديث جاء لكي يجعل الماء من المباحات الأولية، فإن ذلك يخالف ما له من الظهور في كونه بصدد تقديم نقطة جديدة أزيد من اثبات الاباحة الأولية التي تثبت له بشكل واضح على أساس القواعد العامة.
2. يريد الحديث أن يقول إن الماء دائمًا مكان للشراكة بين الناس، بمعنى أن الشراكة فيه ليس شراكة ثابتة فقط في مرحلة ماقبل الحيازة كي تزول بالحيازة. هذا الرأي يواجه سؤالاً وهو أنه إذا قبلنا أن الكثير من المياه مملوكة للبشر (الأمر الذي ثبوته بديهي وضروري)، فلماذا أصبحت هذه المياه مملوكة؟
وقد حاول البعض تبرير وتوضيح سرّ مملوكية هذه المياه، على أساس الذهاب الى أن خروج هذه الموارد من دائرة "أصل الشراكة الدائمة للناس في الماء" بنحو الخروج التخصصي أو بنحو الخروج التخصيصي.
بطبيعة الحال، يبقى تفسير هذا الخروج التخصصي أو التخصيصي كبحث علمي ينبغي أن يتم في مكانه، لكن مع ذلك من الجدير ذكر الجهد العلمي الذي قام به الشهيد الصدر لإثارة هذه القضية في شكل نظرية تشرح كيف تكون هناك شراكة للناس في الماء، وفي نفس الوقت تخرج بعض أقسام الماء عن دائرة الشراكة.
هو بهذه النظرية، يريد توفير معيار لإيجاد شكل علمي للمسألة كي تتمتع بالشفافية، ويبدو أنه من أنصار خروج المياه المملوكة على نحو التخصص؛ إذ يعطي معياراً للشراكة مما يعني أن الماء غير ذي المادة ليس من الأول تحت عموم الحديث.
وخلاصة نظريته بتغيير منا في تقريرها هي أنه لدينا نوعان للمياه أحدهما ما به مادة وهو النابع من الأرض، والآخر هو ما قد انفصل عن المادة.
أما الماء النابع من الأرض فهو لا يقبل التملك، وأما ما انفصل عن الماء النابع فهو يقبل التملك، والمياه المملوكة كلها من القسم الثاني.
3. أن الحديث لا يريد أن يعبر عن الشراكة بالمفهوم التقليدي والكلاسيكي في الفقه، والذي تكونت وترسخت في نظرنا وذهنياتنا؛ بل هي شراكة معناها الدقيق كون الماء حقا مشتركاً للبشر، وهو ثابت لكل شخص تجاه الماء منذ البداية وإلى الأبد.
فالحديث لا يريد إعطاء الشراكة الملكية. وهذا الحق يلقي بظلاله على جميع التفاعلات المتعلقة بالمياه، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، فإن الإنسان أي إنسان، له حق الماء ولا يجوز حرمان أحد من هذا الحق، وهذا نوع من النظرة الكلية والشاملة ويوفر خطاً أحمر أساسياً في مجال الماء، وهو ذلك الشيء الذي قد برز اليوم تحت عنوان: حق البشر للماء؛ فلكل فرد الحق في الماء.
والشريعة من منطلق هذا المنطق (حق الماء) قامت بتشريع وتفصيل أحكام الماء بما فيها ملكية الماء في موارد وعدم ملكيته في أخرى، وحق تصرف غير المالك في الماء المملوك في موارد وعدم تصرفه في موارد، وكذلك أحكام الشرب، والأحقية في الماء لمن سبق في الاستفادة منه وما إلى ذلك من أحكام أخرى.
والفرق بين وجهة النظر هذه ووجهتي النظر السابقتين، هو أن وجهتي النظر هاتين تتعلقان بالشراكة الناظرة إلى الملكية (مع فرق بينهما من حيث نوعية الملكية) أما وجهة النظر الثالثة هذه لا تتحرك أساساً على مبدء الملكية، بل تريد إظهار قضية كبيرة وهي أن الماء بما أنه هو أصل وأساس الحياة من جوانب مختلفة، لذلك هناك حق للإنسان فيما يتعلق بالماء، وهذا الحق.
ويشكل الروح للأحكام التشريعية للماء، فيجب أن يستند التفسير وصنع السياسات والسلوك على هذه الروح والأحكام المنبثقة منه.
ويجب إجراء دراسة جادة وجهد عميق حول هذه الفكرة للكشف عن أبعادها كمنطق إسلامي.
2/. الحق في الماء:
هو حق فرد ما أو مدينة ما أو بلد ما في مياه معينة مثل نهر ، أو عين ، أو بحر ، أو حتى بئر ، وما إلى ذلك.
حول هذا الحق تجدر الإشارة إلى نقاط:
الأولى: يوجد في أدبيات الفقه مصطلح خاص للتعبير عن هذا الحق وهو كلمة شِرْب.
يقول السرخسي في المبسوط:
"اعْلَمْ بِأَنَّ الشِّرْبَ هُوَ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ لِلْأَرَاضِيِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهَا" (المبسوط: 23 / 161).
وقد وردت كلمة الشرب بهذا المعنى في روايات الإمامية.
وكمثال لذلك، حديث سعيد الأعرج، عن أبي عبد الله (ع)، "قال: سألته عن الرجل يكون له الشرب مع قوم في قناة فيها شركاء فيستغني بعضهم عن شربه ، أيبيع شربه؟ قال : نعم ، إن شاء باعه بورق ، وإن شاء بكيل حنطة" (الوسائل: 25 / 418).
الثانية: إن تحديد الحق في الماء له معايير في الفقه لن نتطرق إليها هنا، بل سنترك البحث عنه إلى محله.
الثالثة: بالطبع، يجب تحديث عملية تطبيق قاعدة "الحق في الماء" على أساس قضايا عصرية.
الرابعة: الحق في الماء (الشرب) له أحكام تأخذ روحها من "حق الماء الشامل" الذي بحثنا عنه سابقاً.
٣/. الأحقية:
يأتي هذا في موضع، يوجد شخص سبق إلى الاستفادة من ماء مباح، أو سبق إلى -مثلاً- حفر بئر، هذا يحدث له الأحقية بالماء، وقد ورد ذكره في الفقه، يذكر مورد كمثال:
يقول الشيخ الطوسي حول البئر الذي حفرها الشخص في ملكه:
"... إنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقى زرعه" (المبسوط 3 / 281).
وهذه الأحقية جزء من الفقه لها أحكام مهمة للغاية وتنظم العديد من العلاقات حول الماء يجب تناولها في مكانها.