والحديث عن البطالة له محله، وانما يقع حديثنا عن العمل بالمعنى الخاص أي العمل الوظيفي المتعارف. والعمل الوظيفي يتعرض عادة للخطر ويحتاج الى مقولة الامن الالهية بما يسمى بالامن الوظيفي. وذلك ان الأفراد قد يعتريهم الخوف الدائم القائم من مغبة خسارتهم للوظائف؛ لاسيما في ظل الشركات الخاصة التي تدار من قبل أصحابها بطريقة مزاجية، وربما تفعلها الدولة غير المسؤولة أيضاً عبر تعاقدات مؤقتة، فيعيش الفرد عقدة الخوف من الطرد التعسفي تبعاً لمزاج صاحب العمل او المسؤول لاسيما إذا لم تعمل الدولة العادلة المطمئنة على تحقيق الامن الوظيفي.
ومن هنا على الدولة تحقيق الأمن الوظيفي للأفراد في دوائر المؤسسات الخاصة والعامة بحيث لا تسمح لأصحاب العمل واربابه التفرد بالموظفين والعاملين وجعلهم فريسة الطرد التعسفي والفصل الظالم. إننا نرى كيف أن الدولة تغيب عن جشع وطمع الشركات الخاصة فلا تكون للعمال ولا تضمن لهم الامن الوظيفي، واذا ما كانت الشركات كبيرة وعملاقة وتعرضت للإفلاس أو لمشاكل مالية أو تسويقية أو لإخفاق، فإنها والحال هذه تستغني عن العاملين والموظفين والأجراء وتحدث بذلك خللاً بنيوياً في مقولة الأمن الوظيفي.
وفي كثير من الإحايين يضطر العمال والاجراء الى الكثير من الفعال التي تحرص على تحصيل رضى أصحاب الشركات كي لا يصار إلى فصلهم أو الأستغناء عنهم، وهذا غير الإضطرار إلى قبول سائر الشروط التضيقية التي تفرضها الشركات الخاصة من قبل العمال والإجراء من أجل الحصول على الوظيفة، فيتم القبول براتب قليل، وساعات عمل إضافية بلا مقابل، وباعمال لا تتناسب مع الكفاءات التي يمتلكها هذا العامل وذاك الاجير!
إن على الحكومات والسلطات واجبات مهمة حيال العمال والاجراء بما يوجد توازناً بين الربح المعقول من قبل أصحاب الشركات وبين تحصيل كامل حقوق العمال والاجراء. ان ضمان الامن الوظيفي في القرآن من الاسس الثابتة التي كرستها مقولة الامن العامة القرآنية والتي لم تستثن أي نوع من انواع الامن، فتشمل الامن الوظيفي، فلا يعيش العامل ولا الاجير خوف الفصل وقلق الاستغناء.
ان الامن الوظيفي بحسب القرآن المجيد هو أمن اراده الله المتعال ومنع من تخويف الموظفين وتعريض وظائفهم للخطر من قبيل تشديد الخناق عليهم أو تقليص رواتبهم أو طردهم اما بشكل مباشر واما من باب أحرجه فاخرجه، فإن الرزاق الحقيقي هو الله المتعال لا انت، وهو الذي يقسم رزقه ورحمته وفاقاً لقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
فإذا كانت أسباب الدنيا ومسبباتها وسننها تتطلب أن يكون هناك مدير ومدار، ومسؤول ورعية {ورفعنا بعضهم فوق بعض} فإن ذلك ليس من باب إنك افضل من رعيتك وممن جعلت عليهم مسؤولاً أو مديراً ؛ وإنما من باب تكامل العمل وتنظيمه {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} .
إنها مجرد وظيفة مسؤوليتها أكبر أي إنك ستتم مسائلتك أكثر في الدنيا وفي الاخرة. نعم تتم مسائلته في الدنيا والاخرة. إما في الدنيا وذلك في الدول الحديثة اذ لا مزية للمسؤول وصاحب اعلى مسؤولية حكومية سوى بأنه مطالب اكثر من غيره بتأمين خدمات الناس وتحقيق تطلعاتهم، واذا ما طرأ اي طارئ في اي بقعة من بلده فإنه يطير من منصبه او يستقيل ولا ثالث. أما في بلادنا التي لم تغادر عقلية ابي جهل وابي لهب يوماً والتي لم تختمر بخميرة الاسلام ولا بخميرة ولاية محمد وال محمد عليهم الصلاة والسلام فإن المسؤول وصاحب المنصب يبقى في المنصب ولا يتركه الا قتلاً أو سجناً، أما المرض فلا تاثير له مع وجود الوريث! واما المسائلة في الاخرة فلا ريب فيها، وقد قال الله المتعال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }.
ومن منطلق المسائلة فإن على اي صاحب سلطة أن لا يمدح من يضعهم في مؤسساته ولا يعطيهم براءة ذمة إلا بعد أن يتأكد انه لم يتخرج أي مظلوم من هذه المؤسسة أو تلك، وحتى يتأكد إن الإنجازات الموجودة هي إنجازات حقيقية واقعية أو إفتراضية، وإن الإنجازات فيما لو كانت حقيقية وواقعية هل كان بالإمكان أن تكون أكثر مما تحقق بالنسبة للامكانيات التي تم تزويد المؤسسة بها أو لا؟! فإن الإنجازات تختلف بحسب الإمكانيات، فمن كانت إمكانياته وميزانياته أكبر إنجازاته لا بد أن تكون أكبر.
إن من الخطأ الكبير ربط المؤسسة بشخص لا يريك أيها المسؤول إلا ما يرى وأنت لا ترى إلا ما هو يرى! إنه ينبغي في عملية إسناد المناصب لاشخاص توفر ثنائية القوة والأمانة، لاأن يكون قوياً ومحنكاً لكنه خائن فيسرق وينهب، ولا أن يكون أميناً ولكنه ضعيف فلا يعطي الوظيفة القوة التي تحتاجها! إن ثنائية القوة والأمانة صرح بها القرآن المجيد بقول الله المتعال حكاية عن ابنة شعيب: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
إن فلسفة التوظيف جوهرها كامن في تنظيم شؤون الحياة من ناحيتي التوازن في الأعمال والمهن وتوزيع الارزاق. انظر ماذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قول الله المتعال:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ }. قال عليه السلام: فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل… ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بناء لنفسه أو نجاراً أو صانعاً في شئ من جميع أنواع الصنائع لنفسه… ما استقامت أحوال العالم بتلك، ولا اتسعوا له، ولعجزوا عنه، ولكنه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم، وكل ما يطلب مما تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم.
إن الوظيفة والتوظف بالأصل ليس محبذاً فيما لو كان هناك بديل لأي أحد، فقد ورد كراهة إجارة النفس، فعن الإمام الصادق (ع): من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق. وفي رواية أخرى: وكيف لا يحظره؟! وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره. وعن الإمام الباقر (ع): كان علي عليه السلام يكتب إلى عماله: لا تسخروا المسلمين فتذلوهم، ومن سألكم غير الفريضة فقد اعتدى، ويوصي بالأكارين وهم الفلاحون.
وعن عمار الساباطي: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): الرجل يتجر فإن هو آجر نفسه أعطي ما يصيب في تجارته؟ فقال: لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عزوجل ويتجر، فإنه اذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق. فالوظيفة بالاصل مع توفر البديل أي العمل الحر ليس أمراً ممدوحاً، ولكن مع عدم توفر البديل واحتاجت ظروف الزمان والمكان لهذه الوسيلة في تنظيم الاعمال والمهن وتقسيم الارزاق فإنه ينبغي الحفاظ على الأمن الوظيفي للموظفين والأجراء.
فعن الإمام الصادق (ع): وصى رسول الله (ص) عليا (ع) عند موته فقال: يا علي لا يظلم الفلاحون بحضرتك، ولا يزداد على أرض وضعت عليها ولا سخرة على مسلم يعني الأجير. وعن رسول الله (ص): من ظلم أجيرا أجره أحبط الله عمله وحرم عليه ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام. وعنه (ص): إن الله عز وجل غافر كل ذنب إلا من أحدث ديناً أو أغصب أجيراً أجره أو رجل باع حراً.
وعنه (ص): إن الله عز وجل غافر كل ذنب إلا رجل اغتصب أجيرا أجره أو مهر امرأة. وعنه (ص): ظلم الأجير أجره من الكبائر. وعنه (ص): قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره. وعنه (ص): ألا من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه. وعن الاصبغ بن نباتة قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في مسجد الكوفة، فأتاه رجل من بجيلة يكنى أباخديجة قال: يا أمير المؤمنين، أعندك سر من سر رسول الله (ص) تحدثنا به؟قال: نعم، يا قنبر ائتني بالكتابة… مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم … ولعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من ظلم أجيراً أجره.
وانه بخصوص الموظفين والاجراء لا بد من لفت عناية وانتباه كل من : أ – الموظفين والأجراء: بالقول لهم: عليكم بتوقيع إتفاقية كاملة تسمى عقد العمل ، ويلزم تحديد الأجرة أو الراتب ، فعن رسول الله (ص): إذا استأجر أحدكم أجيراً فليعلمه أجره .صدق رسول الله ( ص) . وعن الإمام الصادق (ع): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتى يعلمه ما أجره.
وعن الإمام علي (ع): نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستعمل أجير حتى يعلم ما أجرته . ب – ارباب العمل: فهؤلاء نقول لهم: اعملوا بالادب النبوي والولوي! اعملوا باداب محمد وآل محمد (ص) في اعطاء الاجرة وفي عموم التعاطي مع العمال والموظفين والأجراء، فعن رسول الله (ص): أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وأعلمه أجره وهو في عمله.
وعنه (ص): أعطوا الأجير أجره ما دام في رشحه . وفي الخبر عن شعيب قال: تكارينا ( إستاجرنا ) لأبي عبدالله الصادق (ع) قوماً يعملون في بستان له ، وكان أجلهم إلى العصر (لاحظ المدة الزمنية ) ، فلما فرغوا قال لمعتب (وهو احد من كان معه): اعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم . البعض للاسف ماذا يصنع ؟ يسوف في إعطاء العمال والأجراء ومع قدرته على الدفع المباشر الا انه يصر دفع المال على فترات ! والبعض يضع المال في البنوك ويؤخر عملية الدفع للعمال بأقصى فترة يمكن أن يؤخر من أجل إستثمار المال الربوي في البنوك ! إن رسول الله (ص) لكي يعطينا درساً مهما حول مفهوم الوظيفة وعمل الأجير وبالرغم من إنه سيد الكون والكون كله له عليه الصلاة والسلام قال لنا كما ورد في الخبر عنه (ص) : ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم . نعم هو (ص) أجير الأمة بالرغم من إنه سيدها! فلتسمع يا كل رئيس وياكل مسؤول ويا كل صاحب منصب! واجرته (ص) هي مودة اهل بيته عليهم الصلاة والسلام اي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}.
وهذه الأجرة فوائدها وعوائدها راجعة لنفس الامة لان مودة اهل البيت (ع) هي السبيل الى الله المتعال: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً". أما لماذا هي تعود بالنفع وبالسعادة على الأمة فذلك لقول الله المتعال: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية "الشيخ توفيق حسن علوية"