ایکنا

IQNA

العقل التساؤلي في الخطاب القرآني: من الشكّ إلى اليقين

9:07 - October 11, 2025
رمز الخبر: 3501958
النجف الأشرف ـ إکنا: لقد تعامل القرآن مع السؤال لا كظاهرة فكرية معزولة، بل كمنهج تربوي شامل، يهدف إلى تحرير الوعي من الجمود، وتوسيع المدارك الإنسانية بما يتلاءم مع الحقيقة الإلهية.

ويُعدّ التساؤل من أبرز الخصائص التي تميّز الفكر الإنساني، فهو المحرّك الأول لكلّ بحث معرفي، والوسيلة التي تفتح آفاق الإدراك أمام الإنسان في رحلته نحو الحقيقة.

ومن خلال التساؤل يبدأ العقل البشري رحلة الملاحظة والمقارنة والتحليل، ليصوغ بذلك أدواته العقلية ويكتسب القدرة على تمييز الصواب من الخطأ، وعلى فهم العالم بما يتيح له مواجهة الموروثات الاجتماعية والثقافية والاعتقادات السائدة.


إقرأ أيضاً:


وإذا كان الفكر البشري قد اتخذ من السؤال منطلقًا لتطوّره الفلسفي والعلمي، فإنّ الخطاب القرآنيّ قد تجاوزه حين جعله ركنًا تأسيسيًّا في بناء العقل الإسلامي، ومحرّكًا لإعادة النظر في المألوف والموروث، وإحياء ملكة التفكر التي خُلق الإنسان لأجلها، وجعل التساؤل بوابة للارتقاء من الشكّ إلى اليقين.

لقد تعامل القرآن الكريم مع السؤال لا كظاهرة فكرية معزولة، بل كمنهج تربوي شامل، يهدف إلى تحرير الوعي من الجمود، وتوسيع المدارك الإنسانية بما يتلاءم مع الحقيقة الإلهية. فالتساؤل في القرآن ليس مجرد طرح للاستفهام أو طلب معلومة، بل هو أداة لإيقاظ العقل والنفس والوجدان معًا، فهو يثير الفكر ويحرّكه نحو البحث والاستدلال، ويعيد الإنسان إلى مراجعة ذاته ومعتقداته وقيمه. 

ومن هنا نجد أن القرآن قد جمع بين البُعد الفردي للمعرفة، حيث يسائل الإنسان ذاته عن أصله ومصيره وواجباته، وبين البُعد الاجتماعي، حيث يسائل الأمة والمجتمع عن حقوق العدل والإحسان، ليصنع بذلك عقلًا مسلمًا واعيًا قادرًا على التفكير النقدي، ومواجهة الخطأ، والتمييز بين الحق والباطل.

ويتميز العقل التساؤلي القرآني بأنه يتدرج من حالة الشكّ الأولى إلى الوصول إلى اليقين، من خلال سلسلة من الوسائل القرآنية المترابطة: التأمل في الكون، والتدبر في النصوص، والسؤال عن الغائب والمجهول، والبحث عن الأسباب، والحوار مع الذات والآخر. فالشك هنا ليس ضعفًا، بل نقطة انطلاق نحو الفهم، واليقين ليس مجرد معرفة سطحية، بل هو ثمرة للتفكر المتواصل والمراجعة العقلية المستمرة.

ومن أمثلة ذلك الحوار القرآني مع النبي إبراهيم(عليه السلام) مع أبيه والكون، حيث يبدأ العقل بالتساؤل عن أصنام قومه وحقائق الكون، ثم يواصل التأمل حتى يصل إلى يقين الإيمان بوحدانية الخالق.

كما أن التساؤل القرآني يمتد ليكون أداة تربوية مجتمعية، إذ يشرك الإنسان في الحوار مع الآخرين، ويحثّه على قبول الرأي المخالف والمراجعة المستمرة، بما يرسّخ ثقافة الشورى، والاعتراف بالخطأ، والتفكير النقدي البنّاء.

وكل ذلك يجعل التساؤل في القرآن جسرًا بين الشكّ واليقين، بين النظرية والتطبيق، بين الفرد والمجتمع، ليصبح العقل التساؤلي في الفكر الإسلامي ليس مجرد عقل متلقٍ، بل عقل حيّ فاعل، متفاعل مع النص الإلهي والواقع الإنساني، قادر على تحويل المعرفة إلى عمل مسؤول، وتحقيق مقاصد الخلق الإلهية.

باختصار، يمثل التساؤل في القرآن منهجًا تربويًا وفكريًا متكاملاً، يحرّر العقل من الركود، وينمي ملكة البحث، ويهيّئ الإنسان ليصبح متفكرًا، مدركًا، ومسؤولًا، في رحلة متواصلة من الشكّ إلى اليقين، ومن المعرفة النظرية إلى التطبيق العملي، ومن الفكر الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي، بما يتوافق مع الحكمة الإلهية ومقاصد الخلق.

بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري 

captcha