والموضوعية حيث ذهب بعض الباحثين، ومنهم رؤساء جامعات في لبنان والخارج إلى القول "إنه كفى الاستغلال المذهبي لذكرى عاشوراء" وقد تضمنت دعوتهم هذه إشارة إلى عدم الاستغراق حول التاريخ وأحداثه، وذلك من منطلق أن الذين قتلوا الإمام الحسين(ع) هم مجموعة خاصة استغلت ضعف المسلمين بعدما أنهكتهم الحروب وأقدمت على فعل هذه الجريمة، بل نجد بعض هؤلاء الباحثين يتهمون الذين دعوا الإمام(ع) إلى العراق وخذلوه!
ولئن كان لهذا الكلام ما يسوغه، فإن الموضوعية العلمية تقتضي من الباحث أن يكون أكثر تجرداً في مقاربة الأحداث على أن يكون المنطلق في هذه المقاربة القرآن الكريم، فإذا كانت الدعوة تريد تجاوز أحداث التاريخ، فليس معنى هذا أن نتجاوز الحق والباطل في دراسة أحداث كربلاء.
فالإمام(ع) خاطب شيعة آل أبي سفيان متهماً إياهم بالعدوانية على الدين وأهله، ولم يلحظ أبداً في خطابه أن تكون هناك خصوصية لأشخاص كما ذهب أحد الباحثين إلى القول بأن عبيد الله ابن زياد يتحمل مسؤولية هذه الجريمة، ولهذا نرى أنه من ضرورات البحث عن المشروع الذي كان يحمله الإمام الحسين (ع) تقعيده رسالياً بمعزل عن الأشخاص والظروف والأحداث.
وكما بيّن رسول الله(ص) أن الحسين(ع) لم يكن يحمل مشروعاً خاصاً به، وإنما كان يحمل مشروع جده محمد(ص). فإذا كان المطلوب هو الدعوة إلى الوحدة، وعدم مذهبة عاشوراء، فهذا ما ينبغي التأكيد عليه، ولكن لا يجب التعمية على حقيقة المشروع الإلهي الذي حمله الإمام(ع) ودافع عنه لإحقاق الحق وإقامة العدل والإصلاح في الأرض.
وبناء على ذلك، فإن ما نروم بيانه في ردّنا على مزاعم بعض الباحثين هو تبيان حقيقة الموقف القرآني من نهضة الإمام(ع) طالما أن هؤلاء يؤكدون على أن المسلمين اليوم لايتحملون مسؤولية هذه الجريمة في كربلاء، ما يقتضي من الجميع تحمل مسؤولية الخطاب في الدفاع عن الإمام(ع) ونهضته بحيث لا تكون منابر ذكرى عاشوراء خادمة لأغراض وفتن لا تخدم الأمة الإسلامية لا في حاضرها ولا في مستقبلها.
صحيح، يقول هؤلاء أن الإمام(ع) تعرض لمظلومية كبيرة جداً تستحق الغضب الإلهي على مرتكبيها إلا أن ذلك لاينبغي أن يحرف الأمور عن مساراتها لتخدم مجدداً الذين قتلوا الإمام!
نحن في تعقيبنا على ما يذهب إليه هؤلاء، نرى أن بحوثهم لا تخدم الحق، ولا تنصف الإمام الحسين(ع)، هذا فضلاً عن أنها تسعى إلى مهادنة الباطل لكونها تتجاوز المشروع وحقيقة الامتداد الرسالي في تاريخ الأمة، فالحسين(ع) ليس مجرد ثائر يريد السلطة أو المنافسة في طلب الدنيا! فهو من أولي الأمر المعصومين الذين افترض الله طاعتهم في محكم كتابه.كما أنه يشكل امتداداً لأطروحة جده لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وحماية الإسلام، عقيدة وشريعة ونظام حكم، من أن تتلاعب به أيادي المبطلين والمحرفين، ومَن من الناس، أيها الباحثون،لا يعرف أن بني أمية هم أصحاب ملك وسلطة،ولم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد!؟
فعاشوراء ليست مناسبة مذهبية حتى يقال أنها تثير النعرات المغرضة هنا أو هناك، وإن كنا نرى عدم سلامة الكثير من المجالس العاشورائية في ما تؤديه من مهام تضر بالهدف المقدس لهذه النهضة،إلا أن ذلك لا يدفع بنا إلى التهوين بالمشروع القرآني الذي كانت كربلاء من أهم تعابيره في نصرة الحق والذين آمنوا.وإن أدنى تدبر فيما لو خلصت النوايا بما كانت عليه أحوال الأمة في زمن يزيد بن معاوية لا بد أن يكشف عن حقيقة ما تلبس به المجتمع الإسلامي من جاهلية جديدة، ما جعل الإمام الحسين(ع) وقبله أخيه الإمام الحسن(ع) مسؤولًا بمقتضى الأمانة التي يحملها، وهذا هو مفاد قوله(ع) :"وأنا أحق من غيّر…" ،بعدما رأى بأم عينه كيف أصبح الحق باطلاً والباطل حقاً!
إن الذي يدلنا على مشروع الحسين(ع) هو القرآن الكريم، فهو كما قال الرسول(ص) إمام قام أو قعد، وهو سفينة النجاة، وهو مصباح الهدى، فهذا كله لا يجعلنا ننظر إلى الإمام(ع) نظرة ملتبسة طالما أن القرآن هو الذي يلقي بثقل الرسالة على الإمام.فالمسألة ليست سياسية أو مجرد حدث تاريخي أو ثورة لها أبعاد سلطوية، وإنما هي مسألة دين ورسالة وحياة أمة، فلم يكن الامام الحسين(ع) إلا القيام والمتابعة لمشروع جده والإصلاح في الأرض، فإذا لم نكن مع الإمام(ع) لنصرته أو لم نكن في معسكر الأعداء لقتله، فهذا لا يعني إطلاقاً تجاهل مشروعية النهضة الحسينية في إطار ما تدعو إليه من حق في مواجهة الظالمين.
وهكذا، فإننا ندعو هؤلاء الباحثين لأن يكونوا أكثر تجرداً في مقاربة الأحداث، وأن لا يتجاوزوا الأطروحة القرآنية التي جسدها الامام(ع) في نهضته. إن من يتدبّر جيداً في عناوين هذه النهضة وما رفعته من شعارات يؤكد لأولي الألباب أن القرآن والإسلام ورسول الله وكل الصحابة الأجلاء كانوا مع الإمام(ع) في هذه النهضة الإصلاحية، وهذا ما يحتم على كل مسلم في الحاضر والمستقبل العمل لإحياء مبادئها، لأنها نهضة الإسلام في مواجهة الطاغوت والجاهلية، فالإمام الحسين(ع) هو كجده محمد رحمة للعالمين، ونهضته رغم فداحة وفواجع أحداثها كانت رحمة إلهية للناس، إذ استطاع الإمام(ع) من خلالها تهديم أركان السلطان الأموي بعد أن فوت عليه فرصة أن يكون ناطقاً باسم الدين أو حاملاً لمشروعه، فالإمام(ع) أسقط المشروع الجاهلي وإلى الأبد،ومَن يرد اللحاق بمشروع الحسين(ع) فليعلم أن هذا المشروع هو مشروع القرآن والسنة النبوية الشريفة، ومن هنا ندعو أهل البحث العلمي إلى التجرد عن المذهبية والتاريخانية فيما لو أرادوا إحقاق الحق.إن عاشوراء منهج حياة،ومدرسة للحق والعدالة ومقارعة الظلم،فمن لحق بها كان له الفتح المبين،ومن تخلف عنها فلينتظر حكم يزيد !والسلام.
بقلم الأكاديمي والباحث اللبناني "الدكتور فرح موسى"
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: