
رغم حياته القصيرة نسبياً، التي لم تتجاوز سبعة وأربعين عاماً، ورغم رحيله في مثل هذا اليوم قبل 55 عاماً، إلا أن القارئ الشيخ كامل يوسف البهتيمي كان ولا يزال أيقونة قرآنية وحالة إبداعية شديدة الخصوصية والتميز، شهد له أكابر زمنه من القراء العظام مثل: الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد الصيفي والشيخ محمد سلامة وغيرهم بالفِضل والكفاءة والنبوغ والتفرد، وأولوه اهتمامهم وتقديرهم في سنواته الأولى عندما قدم إلى القاهرة.
وكان "البهتيمي" يتلو
القرآن الكريم، وكأن جمهوره من الملائكة الكرام البررة، ليس مشغولًا بأحد حوله ولا جواره، يقرأ خاشعًا خاضعًا متبتلًا صادقًا مخلصًا، فتخرج قراءته ماءً رقراقًا زُلالًا، يروي نفوسًا عطشى لكلام الله وما نزل من الذكر الحكيم، تستوي في ذلك تلاواته الخارجية مع تفاعلات المستمعين مع تلاوات أستوديوهات الإذاعة الصامتة.
وأبدع البهتيمي قارئًا ومنشدًا ومؤذنًا، أفاض الله عليه بموهبة فطرية قادته إلى مصاف الكبار وهو في عنفوان شبابه، حتى نعته معاصره ولاحقوه بـ"الشيخ الكامل".
وأتم حفظ القرآن صغيرًا في إحدى قرى شبرا الخيمة بالقليوبية، ثم تلقى القراءات السبع على يد شيخ عموم المقارئ المصرية الشيخ عامر عثمان، وأتقنها إتقانًا.
وطاف العالم قارئًا لكتاب الله، وتلا القرآن العظيم في ساحة المسجد الأقصى، وظل عَلَمًا في رأسه نارٌ –كما تقول العرب- حتى باغته المرض ووافاه الأجل وهو في قمة عطائه وتوهجه.
تلميذ نجيب للشيخ رفعت
القاريء الإذاعي الكبير الشيخ محمود الطوخي يرى أن أهم ما يميز الشيخ "البهتيمي" هو طول القرار مع سلاسته وسلامته، وشدة الجواب وجواب الجواب، كما إنه كان تلميذًا نجيبًا للقارئ الشيخ رفعت، ويظهر ذلك خاصة في طبقة القرار.

ويضيف "الطوخي": كان "البهتيمي" مبدعًا في توظيف المقامات الموسيقية في تلاواته توظيفًا عظيمًا، مستطردًا: "البهتيمي" كان قارئًا ومتفردًا واستثنائيًا وخاشعًا في جميع تلاواته، ما كان سببًا في خلود اسمه وسيرته حتى الآن.
حياة البهتيمي بين التلاوة والإنشاد
من الكتب التي أرَّخت للشيخ الراحل كتاب: "حياة البهتيمي بين التلاوة والإنشاد" لمؤلفه تامر عمر، حيث رصد جانبًا كبيرًا وأصيلًا من حياة الشيخ "كامل" ومسيرته مع القرآن الكريم.
ينوِّه الكاتب إلى أن الشيخ تأثر في تلاواته بأسلوب جديد وهو ترتيب المقامات، مقتديًا في ذلك بالشيخ مصطفى إسماعيل الذى ابتدع هذا الأسلوب الراقى؛ حيث جعل ترتيب المقامات قاعدة أساسية لأسلوب القراءة وهو أن يبدأ التلاوة دائمًا من مقام "البياتي"، ثم يتجول فى وسط التلاوة بمقامات مختلفة مرتبطة بمعانى الآيات.
ويوضح الكاتب: "فإذا كان الشيخ يقرأ فى آيات التبشير بالجنة، كان يقرأ من مقام "السيكا" أو مقام "النهاوند"، وعندما ينتقل إلى آيات الوعيد والعذاب فكان يقرأ من مقام "الصبا" أو "الجاهاركا".. فربما وأنت تستمع إلى الشيخ كامل تظنه يقرأ من مقام "الصبا"، لكنه قد يكون يقرأ من مقام آخر، وهذا بسبب شدة إحساسه بالقرآن وتأثره بكلام الرحمن، فإذا أردت أن تستمع إلى مقام "الحجاز"، كما أُنزَل فاستمع إليه من الشيخ كامل..". ورغم إتقانه للقراءات السبع –كما أسلفنا- فإن "البهتيمي" اكتفى في جميع تلاواته بأربع قراءات فقط، وهى: حفص عن عاصم، وورش عن نافع، وخلف عن حمزة، والدُّورى عن عمرو.
مرتل البهتيمي
وعاصر "البهتيمي" تنفيذ مشروع المصحف المرتل بالإذاعة المصرية إلا إن إذاعة القرآن الكريم لا تذيع له نسخة مرتلة..والسر كما يرويه الكاتب قائلًا: "الحقيقة التي لم يعرفها أحد أن فضيلة الشيخ البهتيمى فعلًا هو أول من راودته فكرة تسجيل المصحف المرتل فى تاريخ الإذاعة المصرية وكان هذا فى بداية فترة الستينيات، ولكن فضيلة الشيخ كانت له وجهة نظر مختلفة فى تسجيل المصحف المرتل، وهي أن يسجل المصحف برواية أخرى غير رواية حفص عن عاصم، وقال وقتها: إننا فى مصر نقرأ برواية حفص، وأن بعض البلدان الأخرى التي يفضل أهلها سماع المدارس المصرية فى تلاوة القرآن من المستحب إليهم أن يستمعوا إلى القرآن بالرواية المتبعة فى بلدانهم"، مضيفًا: تم اقتباس فكرة المصحف المرتل من الشيخ "البهتيمي" وجرى تنفيذها من دونه، ولكن عندما ذهب الشيخ للقراءة في عزاء والد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، طلب الأخير منه تسجيل ختمة مرتلة، وبالفعل بدأ الشيخ البهتيمى فى تسجيل ختمة مرتلة برواية الدورى عن عمرو، بالاشتراك مع الشيخ فؤاد العروسى، وكان ذلك فى أوائل عام ١٩٦٨، ولكن لم يكمل الشيخ البهتيمى تلك الختمة؛ حيث جاءه أجله، ولكن لا أحد يعلم أين ذهب ما تم تسجيله"!!"
تراث البهتيمي
وترك الشيخ "البهتيمي" -رغم عمره القصير- ثروة قرآنية هائلة، تشمل –كما أحصاها الكتاب- مائتى وخمسين تسجيلًا بأستوديوهات الإذاعة، مدة التسجيل الواحد نصف ساعة، وخمسة تسجيلات، مدة التسجيل الواحد ثلاثة أرباع الساعة، وخمسة عشر تسجيلًا آخر، مدة التسجيل الواحد ربع الساعة، وعشرة تسجيلات أخرى، مدة التسجيل الواحد عشر دقائق، وعشرة تسجيلات، مدة التسجيل خمس دقائق، وعشرين تسجيلًا قصيرًا جدًا، مدة التسجيل نحو 3 دقائق.
وعلى صعيد التلاوات الخارجية.. فقد ترك "البهتيمي" ثلاثمائة تسجيل من مساجد مصر المختلفة، تتراوح مدة التلاوة فيها بين خمس وعشرين دقيقة وخمسين دقيقة، ونحو 30 تسجيلًا من سرادق عابدين، كما يوجد بمكتبة التليفزيون ما يزيد على خمسين تسجيلًا متفاوتة المدد الزمنية، ولكن يبدو أن كثيرًا من هذه التلاوات ذهب مع الريح. ورغم إن الشيخ رحل بعد إنشاء التليفزيون المصري بتسع سنوات إلا إن الأخير لم يذع له تسجيلات مصورة إلا مرة واحدة فى أعقاب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر العام 1970!!
البهتيمي منشدَا
عدد قليل من القراء أتقن الجمع بين التلاوة والإنشاد، ولعل القارئ الشيخ كامل يوسف البهتيمي واحدا من هؤلاء الذين أجادوا في المجالين، دون أن يطغى أحدهما على الآخر. لم يكن "البهتيمي" قارئًا عظيمًا وصاحب حنجرة فولاذية فحسب، ولكنه كان أيضًا مُبتهلًا مُتفردًا، يشجي مستمعيه ويصل بهم إلى درجة "السلطنة والاستمتاع".. وهذه كلمات مستفتح واحد من أبرز ابتهالاته وهو: ابتهال "أشرق بروحي": نبيَ الهُدى أشرقْ بروحي وخاطري فإني ظمآنٌ ونورُكَ آسِرى// بسطتَ يدَ الإسعادِ في كُلِ مُلتقى وألَّفتَ بالإيمانِ كلّ العناصر// شريعتُك السَّمحاءُ نورٌ ورحمةٌ وتسبيحُ أوًّابٍ وتوحيدُ ذاكرِ.

وحقق "البهتيمي" شهرة ذائعة خلال فترة قياسية، جعلته ملء السمع والبصر، فقد تنقل قارئًا للسورة بين المساجد الكبرى، حتى استقر به المقام نحوًا من عقد كامل في مسجد "عمر مكرم" بقلب القاهرة، وكان قارئًا للقصر الجمهوري ومقربًا من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وطاف عددًا من البلدان العربية والإسلامية سفيرًا لكتاب الله. ربما كانت هذه المنزلة الكبرى هي ما أغرت المخرج الكبير نيازي مصطفى باستغلال شهرة الشيخ لغناء الأغاني الدينية في فيلم "رابعة العدوية" العام 1963، ولكن الشيخ –بحسب رواية مؤلف كتاب "حياة البهتيمي بين التلاوة والإنشاد"- رفض العرض تمامًا، مشددًا على أن صوته خُلق لقراءة القرآن الكريم، وليس للغناء والمشاركة في الأعمال الفنية.
ورغم هذه المسيرة الحافلة والعظيمة مع كتاب الله إلا أن الشيخ كامل يوسف البهتيمي لم يتم تكريمه رسميًا في مصر حتى الآن، في الوقت الذي تم فيه تكريم العديد من أقرانه في حياتهم أو بعد وفاتهم. ويعتقد البعض أن ارتباط الشيخ بالرئيس عبد الناصر هو السبب الرئيس في عدم تكريمه بالشكل الذي يليق به وبتاريخه حتى الآن..وهو أمر مثير للشك والريبة على أي حال؛ فالرجل كان قارئًا عظيمًا للقرآن الكريم فحسب.
فيما يلي فيديو وقديم نادر بصوت القارئ المصري الراحل "الشيخ كامل يوسف البهتيمي" للآية الـ44 حتى الآية الـ46 من سورة "البقرة" المباركة:
المصدر: بوابة فيتو
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: