ورُوِيَ عن الإمام علِيّ (ع) أنه قال: "في الإنفِرادِ لِعِبادَةِ اللّهِ كُنُوز الْأَرْباحِ".
والعِبادة تذلُّل بين يدي الله العلي العظيم، خالق الكون ومالكه ومدبره، وبيده النفع والضُرُّ، والموت والحياة، والإعطاء والمنع، وهي الوسيلة الأجدى للخلوة مع الله، والأنس به، وبها يستمد العابِد حاجاته الروحية منه، وبها يستعين على مواجهة الأزمات والمَصاعب، ويتخَفَّف من ثقل المَتاعب، إذ يجد نفسه في حِرز الله وكَنَفه وحمايته ورعايته وتدبيره وأمانه، فتسكن نفسه ويطمئن قلبه.
وبهذا الفهم المتقدم يتضح لنا أمر في غاية الأهمية وهو: أن العبادة حاجة للإنسان الذي فُطِرَ على التوجُّه نحو المطلق، والارتباط بالحي القادر الذي لا يُعجِزه شيء، ولا يحول بينه وبين ما يريد شيء، والعليم الذي يعلم حال العبد وحاجاته، والخبير الحكيم الذي شَرَع له الطريق لاستمداد تلك الحاجات، فأوجب عليه الصلاة اليومية الخمسة، وحثَّه على أداء صلوات أخرى وهي النوافل وأهمها نافلة الليل التي تُنشئ فيه روحية جديدة في كل سَحَر، يتمكن معها من مواجهة كل التحديات والصعوبات بثبات ورسوخ، وقوة ويقين.
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴿1﴾ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿2﴾ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ﴿3﴾ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴿4﴾ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴿5﴾ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴿6﴾ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴿7/ المُزَّمل﴾.
وتعرج به وبروحيته ومعنوياته في مدارج الكمال الإنساني حتى تبلغ به المقام المحمود عند الله تعالى، قال سبحانه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴿الإسراء/ 79﴾.
وقد شّرَّع الله للإنسان عبادات يؤديها جماعة أو فُرادى كالصلاة اليومية، وقد حثَّه الله على تأديتها جماعة وأبان له عن الفضل العظيم والثواب الجليل لذلك، والهدف من ذلك بناء مجتمع إيماني يتوجه جميع أفراده إلى الله في حركة جَماعية هادفة ونبيلة، ولا شكَّ فيما لذلك من أثر عظيم على تماسك المجتمع وانصهاره في بوتقة العبادة لله، والاعتصام بعُروَته الوُثْقى، ومعلوم أن الفرد كما يؤثر في المجتمع فإنه يتأثر بحركة المجتمع أيضاً، فبينهما تأثُّرٌ وتأثير متبادل، فعندما يحتشد مع أخوته في الإيمان في الصلاة فذلك يزيده إيماناً وثباتاً عليه، ويُشعِره أنه ليس وحده في سيره التكاملي.
أما النوافل وهي كثيرة فقد حَثّ اللهُ العابدَ على الانفراد بها، ولم يُجِزْ له أن يؤديها جماعة، لأن النوافل عادة ما يؤديها الراغب فيها ومن يجد في نفسه إقبالاً عليها، رغبة بما فيها من بركات روحية ومعنوية عالية.
ولا تقتصر العبادة على أداء الصلوات الواجبة والمندوبة بل تعم كل ما يتقرَّب به العبد من الله تعالى من صلاة، وذكر، وقراءة لكتابه الكريم، وتَفَكُّر، وهذه جميعاً يحسُنُ أن يمارسها العبد منفرداً عن الناس فراراً من صخبهم وتشويشهم، ففي الانفراد خلوة مع الله، ومن أقبل بكله على الله أقبل الله عليه بلطفه ورحمته وتوفيقه ، ولذلك كان رُسُل الله وأولياؤه وعباده الصالحون ينفردون في عباداتهم المختلفة ويعتزلون عن الناس، كما كان رسول الله (ص) يعتزل الناس قبل نبوته وينفرد للتفكر والذكر في غار حِراء، أو كما كان أمير المؤمنين (ع) يتخذ من الليل محطة للخلوة بالله تعالى.
فقد وصف ضَرّار بن ضَمرة خلوته (ع) للعبادة فقال: "...فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ، فَكَأَنِّي اَلْآنَ أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا دَنِيَّةٍ، أَبِي تَعَرَّضْتِ، أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي، لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ بَتَتُّكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ لِي فِيهَا، فَعُمُرُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ، آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ، وَبُعْدِ اَلسَّفَرِ، وَوَحْشَةِ اَلطَّرِيقِ، وَعِظَمِ اَلْمَوْرِدِ".
إن الانفراد للعبادة يعني انقطاع العبد إلى الله عن سواه من الخلق، ومن انقطع إلى الله أضاء الله قلبه، وأنار فكرته، وأسرج له بصيرته، وقد جاء في المناجاة الشعبانية الشريفة: "إِلهِي هَبْ لِي كَمال الاِنقطاعِ إِلَيْكَ وَأَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ".
ورُوِيَ عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: "لا يَكونُ العَبْدُ عَابِداً للهِ حَقَّ عِبادَتِهِ حَتّى يَنْقَطِعَ عَنْ الخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَيْهِ، فَحِيْنَئِذٍ يَقولُ: هَذا خَالِصٌ لي، فَيَقْبَلُهُ بِكَرَمِهِ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي