فالحج ليس مجرد فريضة إسلامية فحسب،وإنما هو قصد إنساني ميّزه الله تعالى بخطابه إلى الإنسانية،كما قال تعالى:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا.."،ولعل أكثرية الناس لا يلتفتون إلى شمولية هذا الخطاب في بعده العالمي!إذ هو لم يأت بخطاب الذين آمنوا كسائر الفرائض الإلهية التي خاطب الله تعالى بها الذين آمنوا في فرائض الصلاة والزكاة والصوم والطاعة والولاية دون أن يعني ذلك سقوط التكاليف عن غير المؤمنين.فالكل مكلف في المولوية تمامًا كما كان الجميع مكلفًا في الإرشادية في عالم ما قبل الهبوط الآدمي إلى أرض الامتحان والمتاع الدنيوي!
وهكذا،نلحظ أنه كانت لفريضة الحج في الخطاب الإلهي ميزة البعد الإنساني،حيث أوجبه الله تعالى على الناس،وهو قصدُ إلهي إلى بيته المحّرم،لكونه أول بيت وضع للناس،كما قال تعالى:"إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين.".وهنا تبدو لنا الدلالة القرآنية واضحة تمامًا لكل متدبّر في آيات الله،أن الخطاب للناس استوجب أن تكون الهداية للعالمين،وليس للمسلمين فحسب!فلماذا جعلنا من الحج قصدًا خاصًا ومنعنا أن تكون له آثاره العامة في الدين والسياسة،فضلاً عن البركة والهداية؟؟؟
إنها مناسك يؤديها العباد ذكرًا لله تعالى،وطلبًا للرحمة والمغفرة،واعترافًا منهم بحق العبودية لله،حيث قال تعالى:"ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات…"،ذلكم هو معنى القصد إلى الله تعالى في ما أمر به الناس من تكاليف تعبدية تحثّهم على الوحدة والتكافل الاجتماعي والتشاور حول قضاياهم على النحو الذي يمكّنهم من معالجة شؤونهم،وتدبير أمورهم،والقيام بكل ما يلزم لتحصين واقعهم الاجتماعي والسياسي؛لأن العبادات الإلهية في مضامينها ودلالاتها تنطوي على أبعاد عملية من شأن القيام بها تحصين وحدة الأمة وحماية دينها ووجودها من أن تطاله أيادي المحرّفين والمفسدين،وخصوصًا فريضة الحج التي تشتمل في مناسكها على وحدة الموقف الديني والسياسي،وذلك من منطلق أنها تشكّل اجتماعًا إنسانيًا تعلن فيه البراءة من المشركين والمفسدين في الأرض!فإذا لم تكن أهم قضية تعني المسلمين حاضرةً في هذا الاجتماع الإنساني،ونعني بها القضية الفلسطينية ومقدسات المسلمين،فما يكون معنى الحج والقصد إلى الله تعالى؟
وهل كانت البراءة من المشركين والمفسدين في تاريخ الإسلام والمسلمين مجرد تعبير نظري،أم كان لها بعدها العملي في واقع الناس؟
إن الله تعالى،كما يجمع أهل العلم،أراد تحصين وحدة الأمة الإسلامية،والحوار الإنساني في بعده العالمي بجملة من التشريعات الإلهية،ليكون للأمة دورها الوسطي،وتعبيرها العملي،بحيث تكون حياتها العامة انعكاسًا حقيقيًا لهذه التشريعات،وتأتي شريعة الحج في طليعة هذه التشريعات لضمانة أن يكون للأمة اجتماعها الوحدوي بما يمكنها من القيام بأعبائها وحماية مصالحها الحيوية!فالحج ليس مجرد تعبير نظري تجريدي يؤديه الناس بدافع أن تكون لهم الجنة والرضوان بعد موتهم،وإنما هو واجب له معنى الجنة في الدنيا،فإن لم يكن له هذا المعنى،فما تكون الحاجة إليه في الآخرة،وقد قال الأستاذ شريعتي ذات يوم:"إن لم تكن لكم جنة الدين في الدنيا،فما هي حاجتكم إلى الدين والإسلام في الآخرة…"؟
نعم،لقد خسرت الأمة في تجربتها التاريخية،وحجّت إلى غير مكان في الرؤية والموقف والهدف،فأخرجت نفسها من كونها خير أمة لتكون على بلاء عظيم في كل ما صدرت عنه وانتهت إليه في تعبيراتها الدينية والسياسية!؟إن ما عايشته الأمة الإسلامية في تجربتها جعلها على خطأ كبير في واقع حجها وأداء مناسك دينها،وكان من نتائج هذا التعثر الديني تمكّن الطواغيت من تجاذب حجّها على نحو ما جرى بين الزبيريين والمروانيين سنة٦٦ للهجرة،الذين فرقوا الأمة في كل فرائض دينها،وخصوصًا في حجها بعد أن جعلوا منه طريقًا إلى السلطة،ومنسكًا لطلب غنائم الدنيا!وقد أجمع أهل العلم والتأريخ على أن الأمة الإسلامية بعد وفاة نبيها ص،وتعاقب الطواغيت على حكمها،لم يبقى لها خلوص القصد إلى الله تعالى في حجها،تمامًا كما لم يبق لها من صلاتها سوى فعل المنكرات،خلافًا لقوله تعالى:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر…"،وهكذا نجد أن الحج هو أيضًا قد تحول إلى واقع مرير في مؤدياته الدينية والسياسية،حيث تفرّقت الأمة،وهي لا تزال تعيش هذا التفرّق في الدين!
فلم تفلح في نصرة قضاياها المحقة،وخير دليل على ذلك،هو ما نعايشه اليوم في واقعنا الديني والسياسي،الذي انقسم فيه الناس بين من يحج إلى مكة تقليدًا ومحاكاةً لتجارب تاريخية،وليس تعبيرًا عن مناسك دينية!وهناك آخرون اختاروا أن يكون لهم حج الشهادة على طريق القدس وفلسطين،اعتقادًا منهم أن مقدسات المسلمين هي في ضمير الحج المكي،وهذا ما تفيده حقيقة التلبية،أن يكون الله تعالى مقصدًا وجوهرًا في أداء شعائر العبودية.
وهل دماء فلسطين غير هذا الحج الإلهي المقدّس،؟وقد سبق للحسين بن علي ع أن حج إلى كربلاء في الوقت الذي كان فيه كثير من الناس يحجّون إلى السلطة والدنيا في مكة والشام!؟!؟فالبراءة من الشرك والفساد والنفاق ليست مجرد تقليد سلطوي،وإنما هي حقيقة قرآنية ينبغي الالتزام بها والتعبير عنها عمليًا في نصرة الدين وقضايا الأمة المقدّسة؛فإذا لم يكن الحج قصدًا واعيًا،وفعلًا هادفًا،فلن تكون له بعدية الموقف الديني،وقدسية التوجه في تحقيق مقاصد الدين في ما تؤديه الأمة من عبادات،وتنتهجه من مسالك في تجسيد خياراتها المقدسة،إذ لا فصل بين مكة والقدس طالما أن البركات الإلهية قد امتدت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
فكل مناسك الحج في مؤدياتها العبادية والسياسية تعني أن يكون للأمة طوافها وسعيها ورجمها لشياطين الأرض،!وقبل كل هذا ينبغي أن يكون للأمة معنى الاعتراف لله تعالى في عرفة الحج،بحيث يكون منها صدقية اللعن على كل المعتدين على حقوق الله تعالى وحقوق الناس.ذلكم هو معنى أن نحج إلى مكة ونهوي بالقلوب إلى أولياء الله تعالى،أن يكون حج الشهادة إلى فلسطين منسكًا إلهيًا يمتد بالأمة من مكة إلى كل مقدّس في الزمان والمكان والتاريخ والحياة.وكل هذا كان وسيبقى له اسم فلسطين غرّة الدين وحج المجاهدين حيث كانوا من مكة إلى القدس وفلسطين.والسلام.
بقلم: الکاتب و المحلل الدكتور "فرح موسى"