ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ عَلِمَ ما فيهِ سَتَرَ عَلى أَخيهِ".
لا أحد منا قارئي الكريم بلغ مرتبة العصمة المطلقة، التي تسمو به فوق الذنوب والمعاصي والعيوب، لا أحد منا بلغ مرتبة الملائكية في وجوده حتى صار خاليا من النقائص والأخطاء، ومن يوهِم نفسه بذلك يغفل عن أخطائها ويهلكها، فقد لا تكون أخطاؤنا ظاهرة للعيان، وقد لا تكون معاصينا مشهودة للناس، فما أكثر ما نرتكبه منها في خلواتنا، نحسب أن لا أحد يرانا، ونغفل عن أننا في محضر الله وتحت رقابته، وهو الذي لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، فما أكثر ما نعرفه عن أنفسنا ويغيب عن الناس يستره الله عنهم رحمة منه ورأفة بنا، وحفظاً لكرامتنا.
في هذا السياق يأتي قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ عَلِمَ ما فيهِ سَتَرَ عَلى أَخيهِ" ليضعنا وجهاً لوجه أمام مرآة النفس التي تعكس لنا ما فيها من عيوب وأخطاء، وما ارتكبنا من معاصي وهفوات، ولتقول لنا، إن رأيتم عيوب الآخرين فاستروها كما ستر الله عيوبكم، وارأفوا بهم كما رؤف الله بكم.
إقرأ أيضاً:
فمَن عرف عيوبه، أدرك ضعفه، ووقف على خلله، وعلم أن الله الستَّار قد ستر عليه ولم يفضحه أمام الناس، فيحمله ذلك على ستر عيوب الناس، فلا يفضحهم، ولا يُشهِّر ولا يشمت بهم، ولا يقسو عليهم، لأنه يرى في عيوبهم صدى لعيوبه هو، فيعاملهم كما يحب أن يعاملوه، ويستر عليهم كما يوجِب أن يستروا عليه.
والستر على الآخرين ينشأ من معرفة الذات، وفضحهم ينشأ من الجهل بها، فمن علم أنه مستور عليه ستر على الآخرين، ومن جهل ذاته فتوهَم أنه بريء من العيوب فقد يدفعه ذلك إلى فضح الآخرين، فغالباً ما يسارع الناس إلى كشف عورات الآخرين حين يظنّون أنفسهم أنقياء بُرآء، فالجهل بالنفس يولَّد شعوراً زائفاً بالتفوق الأخلاقي، يجعل الإنسان يسارع إلى فضح سواه وإدانته وتعييره، ولكن حين يعرف ما فيه يعلم أنه ليس أهلًا لأن يُدين الآخرين ويعيبهم.
وهناك سبب آخر قد يدعو الإنسان إلى تمزيق أستار الآخرين وفضحهم، وهو الأهم في نظري والله العالم، وهو: أن من يعلم ما به من عيوب وما يرتكبه من موبقات، غالباً ما يلجأ إلى تتبع عيوب الآخرين وفضحها ليبرِّر لنفسه ما يرتكبه، ليتساوى مع الآخرين، وليقول للناس: لست وحدي من يفعل ذلك، الناس مثلي، أنا وهم سواء، وإلى هذا الأمر نبَّه الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله: "ذَوُو العُيُوبِ يُحِبُّونَ إِشَاعَةَ مَعَايِبِ النَّاسِ لِيَتَّسِعَ لَهُمْ العُذْرُ في مَعَايِبِهِمْ".
ولقد أولى الإسلام أهمية كبرى لكرامة الإنسان، والمحافظة على خصوصياته، وما بينه وبين الله تعالى، فسَنَّ طائفة من التشريعات التي تصون تلك الكرامة وتحفظ تلك الخصوصية، فنهى عن تتبع عورات الناس، ونهى عن تعييرهم بها، وحكم بحرمة ذلك، وأوجب على من انكشف له شيء منها أن يسترها عليهم، وكشف عن حتمية أن من تتبع عورات الناس تتبع الناس عوراته، ومن هتك أستارهم هتكوا أستاره، ومن فضحهم فضحوه، ومن عيَّرهم بذنب عيروه بذنبه، هذا في الدنيا، ناهيك عن العقاب الأخروي الذي لا مفرَّ منه إلا بالتوبة إلى الله، وبإسقاط الآخرين حقوقهم عن كاهله.
ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "يا عَبدَ اللَّهِ، لا تَعجَلْ في عَيبِ أحَدٍ (عَبدٍ) بِذَنبِهِ فلَعَلَّهُ مَغفورٌ لَهُ، ولا تَأمَنْ عَلى نَفسِكَ صَغيرَ مَعصِيَةٍ فلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيهِ، فَلْيَكفُفْ مَن عَلِمَ مِنكُم عَيبَ غَيرِهِ لِما يَعلَمُ مِن عَيبِ نَفسِهِ، وَلْيَكُنِ الشُّكرُ شاغِلاً لَهُ عَلى مُعافاتِهِ مِمّا ابتُلِيَ بِهِ غَيرُهُ"
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي