ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لَوْ لَمْ يَنْهَ اللّهُ سُبْحانَهُ عَنْ مَحارِمِه، لَوَجَبَ أَنْ يَجْتَنِبَهَا الْعاقِلُ".
وتتجلى هذه الجوهرة الكريمة في عمق الحكمة الإلهية من التحذير من محارم الله وتجنّب معاصيه، فهي توضح أن العاقل بما أوتي من عقل ورشد، يمكنه أن يدرك الضَّرَر الذاتي والمجتمعي في المعاصي والذنوب، حتى وإن لم يُنهَ عنها، وذلك لأن العاقل يسعى لتحقيق الكمال والرُّقي لنفسه.
إقرأ أيضاً
مِما لا شَكَّ فيه أن للعقل عموماً قدرة على التمييز بين الخير والشر والنافع والضَّار، وإن لم يكن هناك نص ديني يمنع شيئاً ضاراً فإن العقل يفرض على الإنسان تجنبه، فالشرور والمعاصي، وإن لم يكن هناك وحي يمنعها، هي داء يضرّ بنفس الإنسان وبالمجتمع الذي يعيش فيه، والابتعاد عنها هو مطلب عقلي، لأن العاقل يسعى دائماً لما فيه خيره وسلامته، ويتجنب ما يؤدي به إلى الأذى والهلاك.
إن الله تعالى منح العقل القدرة على التمييز بين ما هو حسَنٌ وما هو قبيح، ومنحه القدرة على استحسان فعل الأمور الحَسَنة، وإدراك أن فعلها كمال ورُقي، واستقباح فعل القبيح، وإدراك أن فعلها قبيح، ولا يختلف في ذلك عاقلان، ولذلك وجدنا الله تعالى يقرر ذلك في كتابه الكريم في أكثر من موضع، وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿60/ الرحمن﴾ فالآية الكريمة تقرِّر ما يُدركه العقل البشري من حُسنِ مجازاة الإحسان بالإحسان، ومن قُبح مجازاته بالشَّر والجحود والنُّكران.
ويقول تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴿35﴾ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴿36/ القلم﴾ إن الآية الكريمة تسأل باستنكار كيف يمكن لعاقل أن يحكم بأن عاقبة العادل والظالم، والمطيع والمُجرم، واحدة ومتساوية، إن ذلك قبيح بمنطق العقل البشري، ولما كان قبيحاً ذاتاً فإن الله تعالى المتسامي عن فعل القبيح لا يستحيل أن يجازي العادل والظالم بنفس الجزاء.
إن العاقل الحق يعرف أنه مخلوق لهدف سامي، ويعرف أن عليه أن يسعى إلى ذلك الهدف ليله ونهاره، ويعرف أن عليه أن يفعل كل ما يوصله إليه، وأن يجتنب كل ما يعيق حركته إليه، ويعرف أن الله تعالى قد منحه مرتبة الكرامة الكبرى، والخلافة عنه في الأرض، ويعرف أنه لا يليق بكرامته أن يفعل ما حرَّم الله تعالى، ويعرف أن الله تعالى لا يحرِّم عليه إلا ما يحكم العقل البشري القطعي بحرمته، ولا يوجِب عليه إلا ما يحكم بوجوبه، وإذا غابت عنه عِلَّة الحرمة أو علة الوجوب يعرف أن الغاية من هذا الحكم أو ذاك جلب المصلحة إليه ودفع المفسدة عنه، والمصلحة والمفسدة قد تكونا مادّيتَين وقد تكونا معنويتين، وقد تكونا من كليهما، وقد يكون أثرهما دنيوياً وقد يكون أخروياً وقد يكون من كليهما، ولذلك يستجيب لأحكام الله تعالى، فيجتنب ما يجب اجتنابه ويفعل ما يجب فعله.
عندما نلاحظ المُحرَّمات التي نهى الله تعالى عنها نجد أن العقل ذاته يدعو إلى اجتنابها بقطع النظر عن النَّص الديني، على سبيل المثال نذكر قوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿151﴾ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿152/ الأنعام﴾ فهذا المحرَّمات والواجبات مما يأمر العقل باجتنابها، أو يأمر العقل بفعلها.
ولذلك يبتعد العاقل عن الحرام، ليس خوفاً من العقاب فقط، بل اقتناعًا بضرره على نفسه وعلى مجتمعه، فإذا لم يتوفر نَصٌّ ينهى عن شيء بعينه، فإن على العاقل أن ينظر إلى آثاره ونتائجه، فإن وجده ضاراً وجب عليه تركه، لأنه لا يتفق مع السَّعي نحو الكمال، وبهذا يتعامل مع الحياة بمعايير عقلية سليمة، معتمداً على الفطرة السليمة والمبادئ التي رسَّخها الشرع الدين، ليصل إلى حياة طيبة ومجتمع صالح يحقق فيه الخير.
بقلم الکاتب والباحث اللبنانی في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي