
في هذه الجوهرة الكريمة، يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن حتمية ذات علاقة بكيفية تعامل المرء مع صعوبات الحياة وأزماتها، والتحديات التي تواجهه وهو يسعى إلى تحقيق الأهداف التي اختارها لنفسه أو لمن يكونون تحت ولايته.
يعلم قارئي الكريم أن للحياة قوانينها القاهرة التي لا قدرة للإنسان على تجاوزها، أو تطويعها، أو التحايل عليها، جُلُّ ما يقدر عليه أن يفهمهما ويتعامل معها كما هي، وتكون حركته في الحياة مُتَّسقة معها، فإنها قوانين ومعادلات صارمة قاهرة، هكذا شاءها الله تعالى، وعليه، فلا إمكانية لمعاندتها، والخروج عنها، ومن يواجه أمور الحياة بعناد وشدة، دون تروٍ أو تخطيط حكيم، سيؤدي ذلك إلى هلاكه أو تضرره.
بالطبع، ليس المقصود مِمّا تقدّم الخوف من التحديات وعدم مواجهتها، لأن التحديات مكوِّن أصيل من طبيعة الحياة، ومواجهة التحديات ضروري كضرورة الماء للعطشان، وكما أن الماء يهب الحياة كذلك مواجهة التحديات تكشف للإنسان عمّا كمن في ذاته من قابليات وطاقات، وتطوِّر معارفه ومداركه، وكل تحدٍ منها هو بمثابة دورة تدريبية تصقل شخصيته وتطوِّر مهاراته.
بل المقصود الكيفية التي يواجه بها المرء تحديات الحياة، فالتعامل المتهوِّر والمتسرِّع مع الأمور يفضي إلى الفشل، بينما التعامل العقلاني المتزن والمنضبط، والقائم على التدبُّر في عواقب الأمور، والتخطيط المُسبَق لها، يجنِّب الإنسان العطب والضَّرَر، ويؤدي إلى نجاحه.
هذه الحتمية التي أطلقها الإمام (ع) تعبّر عن قانون طبيعي للحياة، فكل من يتصدى للأمور الصعبة بعناد أو إصرار غير محسوب يُنهَك جسدياً أو نفسياً أو اجتماعياً أو مالياً، وهذا يتوافق مع سُنَنِ الله الكونية القائمة على أن لكل فعل رد فعل، وأن العناد بلا حكمة يؤدي إلى الخسارة.
إن الشخص الذي يواجه مشاكله الأسرية بعناد وتصلُّب دون البحث عن حلول وسطى يعاني من مشاكل متواصلة لا تنتهي، بينما من يعتمد التفاهم مع أفراد أسرته، والحكمة في قراراته وتصرُّفاته يتجاوز الأزمات بأقل الأضرار، والقائد الذي يصرُّ على مواجهة الأزمات بأسلوب صدامي فَجٍّ ولا يكون مرِناً في تعامله فمصيره الفشل المحتوم، بينما القائد الحكيم هو الذي يدير الأزمات بخطة محكمة ورؤية استراتيجية، فيتجنَّب العَطب الذي حذّر منه الإمام، والسياسي الذي يخوض معاركه بعناد دون قراءة الواقع بشكل دقيق فمصيره الانتقال من فشل إلى فشل آخر، بينما الذي يعتمد الدبلوماسية والحِنكة والحكمة في التعامل يستطيع تحقيق أهدافه بأقل الأثمان.
ولا يقتصر الأمر على ما سبق بل يشمل حتى الصحة النفسية والجسدية، فالإصرار على تحمّل ما لا يُطاق، من الضغوط النفسية، أو التعب البدني يؤدي إلى الإنهاك وربما المرض، بينما من يعتمد أسلوب التوازن في الحياة يستطيع تجنُّب هذا العطب.
وفي طي هذه الحتمية يُرشدنا الإمام (ع) إلى ضرورة استخدام العقل والتدبير عند مواجهة الأزمات، فلا يمكن للإنسان أن يتعامل مع الشدائد بأسلوب المواجهة العنيفة دون توَقُّع عواقب وخيمة، فالحكمة، والاعتدال في التصرُّف يُعينان الإنسان على تجاوز العقبات بأقل الخسائر.
ومن المفيد قارئي الكريم التفريق بين صبر الإنسان على تحديات الحياة، وبين معاندته لقوانينها وأحوالها، فالصبر يتطلب التحمُّل الواعي والمُتزن، ودائماً ما يؤدي إلى تحقيق المطلوب وبلوغ الغاية ولو كان ذلك مصحوباً بالمتاعب والمشقات، بينما المعاندة والتهور، فإنَّهما يؤديان إلى إنهاك الإنسان وربما هلاكه، لذلك، يدعو الإمام إلى مواجهة التحديات بأسلوب مَرِن ومتزن، لا بأسلوب عنيد ومدمر.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي