
وقد نعتبر الأمر محض خيال، أو ربما قد يعجز العقل عن استيعابه، امرأة جزائرية استطاعت حفظ
القرآن الكريم، بعدما تجاوزت العقد الثامن من عمرها (83 سنة)، وفوق كل هذا، لم يسبق لها وأن تعلمت حرفاً، أو مارست الكتابة يوماً، كانت تجهل حروف الهجاء ولا تعرف ترتيبها، فما بالك بربطها، حتى تنسج في الأخير كلمات كما يفعل ذلك أطفال المدارس في أولى تجاربهم في الأقسام الابتدائية…
الحاجة عمارية، ابنة حي العباد، أين يرقد الوالي الصالح أبي مدين شعيب بتلمسان، كان لها منظور آخر، لا بل كانت لها عزيمة أخرى، عزيمة لا تشبه عزيمتنا التي غالباً ما نرتكز عليها، وغالباً ما تخذل البعض منا، لم تكن عزيمتها من فولاذ كما قد نصف ذاك، أو من حديد، ولا من أي معدن آخر، قد نبحث له عن صفة تمنحنا المعنى الصحيح عن تفوقنا، لقد تحلت الحاجة عمارية بصفة نورانية…. نعم كانت تمتلك الحاجة بوشعور عمارية زوجة الفقيد بو يعقوب لعرج عزيمة من نور، أرشدتها، لتجعل منها بعد عقود من الزمن، بعد 83 سنة، سيدة السيدات حافظة لكتاب الله الكريم، وبعد أن أرغمتها الظروف أن تقضي تلك السنين ربة بيت لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وتكون بذلك رقماً يضاف إلى أرقام الأمية التي خلفتها الإدارة الكولونيالية الاستعمارية.
إقرأ أيضاً
انتظرت سيدة السيدات إلى غاية سنة 2005، لتبدأ مسيرتها في محو أميتها التي تطلبت منها أن تتسلح بالمثابرة والاجتهاد وتدريب الذاكرة، وما أدراك ما الذاكرة، وأنت على عتبات الستينيات من العمر، وتلك الآثار البيولوجية والنفسية والاجتماعية التي تجعل من الذاكرة عاجزة أحياناً على التذكر، فما بالك بقدرتها على تخزين المعلومات وحفظها.
الحاجة عمارية التي كانت تمشي مئات الأمتار على الأقدام (ذهاباً وإياباً) بلا كلل ولا ملل عبر مسالك، مضطرة فيها أن تسلك عڨبة (عبارة عن مسلك مرتفع) يؤدي إلى حي العباد، وهي قادمة من حي سيدي الطاهر، حيث المدرسة القرآنية بمسجد صلاح الدين الأيوبي، هنالك في تلك المدرسة كانت تنتظرها مواعيد النور والأنوار التي كانت تضيء من حروف معلمتها ورفيقتها في طريق محو الأمية المعلمة السيدة نجمة بلخوش، التي كانت فعلاً وقولاً نجمتها التي أنارت تلك ظلمة التي لازمتها منذ طفولتها، وحالت بينها وبين رغبتها الجارفة ليس لتعلم الحروف، أو رص كلمة جنب كلمة وفقط، بل وتوقها الفياض في أن تقرأ وتحفظ القرآن الكريم، وبعد 20 سنة بأيامها ولياليها، شهورها وسنيها، تحقق المراد، لتصل إلى مبتغاها ومناها، يقودها في ذلك إيمانها الكبير في خالق الكون، وكما قيل قديماً "من تعلم الإيمان تعلم القرآن".
هكذا حدثت شبه المعجزة فالحاجة عمارية، احتفى بها يوم السبت الماضي رُواد المدرسة القرآنية لمسجد صلاح الدين الايوبي بسيدي الطاهر بتلمسان، من طلبة وحفظة القرآن، وأساتذة كرام يتقدمهم الإمام الفاضل "احمد طبيب" إمام مسجد صلاح الدين الأيوبي، أين كان الاحتفاء بهذه القدوة في الجد والاجتهاد، القدوة التي لم تثنها الظروف ولا سنوات العمر ولا المسافات الطويلة التي كانت تقطعها سيراً على الأقدام من منزلها بحي العباد إلى حي سيدي الطاهر، ولا عجزها عن القراءة والكتابة، من تحقيق مبتغاها النوراني، وحفظها للقرآن الكريم.
المصدر: الشروق
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: