
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ قَنَعَ بِقِسَمِ اللهِ اسْتَغنى".
من قنع استغنى، تلك هي المعادلة التي ينبهنا إليها الإمام (ع)، وهي تربط بين القناعة بما قسم الله وبين الاستغناء الحقيقي ولو كان ما قسَمَ الله قليل.
نتكلم في هذه المعادلة ضمن النقاط التالية:
أولاً: إن القناعة تعني القبول التام من القانع بقضاء الله تعالى وتقديره، والاقرار بأن كل ما يقدِّره الله تعالى له فلحكمة منه، رعاية لمصلحته الواقعية في الدنيا وفي الآخرة، وأنه لو كان من مصلحته أن يزيده الله لزاده، وأعطاه وزن الجبال ذهباً، ولم ينقص من ملكه شيء، ولكنه قدَّر رزقه بما يتلاءم مع مصلحته، وبهذا، فإن القناعة سمة روحية عظيمة تعزز الطمأنينة واليقين في قلب الشخص، وتُبعده عن غلبة الشهوات والملذات الدنيوية، وتجعله في حال من الاعتماد الدائم على الله والرضا بقدره، وأنه تعالى لا يمنع عنه لطفه ورأفته ورعايته، مما يخلق في كيانه شعوراً بالقوة والغِنى الذين لا تبدِّلهما تقلبات الأيام.
ثانياً: لا تقتصر القناعة على المال، بل تتسع لتشمل القناعة بالمنصب والمكانة الاجتماعية، والقناعة بالولد، والقناعة بالزوج، والقناعة بما يمتلكه، فمن يوفَّق للقناعة في هذه المجالات ينعم بغِنى نفسي عظيم، يدفع عنه الاضطراب والقلق والخوف من المستقبل، كما ينعم بعِزّة أمام الآخرين يشعر معها أنه الأكثر غنى منهم مهما بلغ ما في حساباتهم وخزائنهم، فالغنى الحقيقي لا يُقاس بالماديات بل بثقة القلب وسكينة النفس، فكم من ثري تراه قَلِقاً على ماله، يخاف مِما قد يأتي به المستقبل، يستبدُّ النَّهَم به يريد المزيد والمزيد، لا يُشبِعه شيء ولا يُرضيه شيء، يتودّد لهذا ويتملق لذاك، وقد يُذهِب ماء وجهه لينال صفقة هنا وصفقة هناك، فأما القانع فعلى النقيض منه، يكفيه ما في يده، ويغنيه عما في أيدي الناس.
ثالثاً: إن القناعة كما تكشف عن غنى نفسي عند القانع، كذلك تكشف عن ثقته العالية في نفسه، لذلك لا يقارن نفسه بسواه من الناس، فلا يرى نفسه أقلَّ شأناً منهم، ولا يشتهي ما فيه أيديهم، ولا يقيس كرامته بما يملك بل بما هو متصف به من فضائل وقيم.
وتنشأ القناعة من ثقة الإنسان بالله، وثقته بضمانه رزقه، وتوكُّله عليه، وثقته بنفسه أيضاً، وقدرته النفسية على الاكتفاء بالموجود، وقناعته أن عدم الاكتفاء بالموجود يعني أن لا يَسُدّ نَهمَه شيءٌ مهما بلغ من الكثرة، جاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ كانَ بِيَسيرِ الدُّنيا لا يَقنَعُ، لَمْ يُغنِهِ مِنْ كَثيرِها ما يَجمَعُ"، ورُوِيَ أن رجلاً شكا إلى الإمام جعفر الصادق (ع) أنه يطلب فيصيب ولا يقنع، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه، وطلب من الإمام (ع) أن يعلّمه شيئاً ينتفع به، فقال الإمام (ع): "إِنْ كانَ مَا يَكْفِيْكَ يُغْنِيْكَ فَأَدْنَى مَا فِيْها يُغْنِيْكَ، وإِنْ كَانَ مَا يَكْفِيْكَ لا يُغْنِيْكَ فَكُلُّ ما فِيْها لا يُغْنِيْكَ"
إن "مَنْ قَنَعَ بِقِسَمِ اللهِ اسْتَغنى" منهج حياة يدعو إلى الثقة المطلقة في حكمة الله وقدره، ويحثُّ الإنسان على التوقف عن اللهاث خلف الشهوات الدنيوية الزائلة، والسّعي نحو غِنى دائم يتمثَّل في السكينة والرضا، والمؤمن هو الذي يرضى عن الله ويرضى الله عنه.
إن التمسُّك بهذا المبدأ يساعدنا في بناء شخصية متزنة، قادرة على مواجهة تقلبات الحياة وتحدياتها بثبات وإيمان ويقين.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي