
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّويلَةِ".
في هذه الجوهرة الكريمة ينبّهنا الإمام (ع) إلى معادلة مهمّة تربط بين العطاء والخدمة ولو كانا قليلين، ومردودهما الذي يتمثّل بعطاء الله للمعطي، وهو عطاء طويل الأمد، وواسع، ومُضاعَف، ولا متناهي بالنظر إلى الأجر والثواب الذي يترتب عليه في الآخرة، حيث الخلود والدوام.
وعليه فنحن أمام معادلة يمكننا صياغتها على الشكل التالي: كلّما بذل الإنسان من قُصارى جهده وأعطى مِمّا في يده وإن كان قليلاً، فإن الله يعوِّضه بأضعافٍ مضاعفة، تفضُّلاً منه وكَرماً، ورأفة منه ورحمة.
وهذا ما نَصَّ
القرآن الكريم عليه في أكثر من آية، منها قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿البقرة: 245﴾ إن من لطف الله بعباده ورحمته ورأفته بهم أنه يمنحهم الحياة، ويَسَعُهم بفضله ونعيمه، ويرزقهم ما لا يقدرون على شكره، ويوسِّع عليهم في عطائه، ويعطيهم المال، ثم يجعل ذلك مُلكاً خالصاً لهم، ثم يعود بفضله عليهم فيشترى منهم تلك القدرات والعطاءات، ويقترض منهم ذلك المال، ثم يعود بفضله وكرمه فيؤدّى إليهم ثمن ما اشترى، وقيمة ما اقترض أضعافاً مضاعفة، وكان له سبحانه أن يأخذ ما منح، ويسلب ما أعطى، بلا عوض، ودون مقابل، ولكنه ذو رحمة واسعة وفضل عميم.
وقال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿سبأ: 39﴾ فالله سبحانه يتكفّل بإعادة ما يُنفَقُ في سبيله لا ينقص منه شيء.
ويؤكد القرآن الكريم أن كل ما يُعطى في الله لا ينقص بل يزيد، يضاعفه الله ويبارك فيه، قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿البقرة: 265﴾ إن مثل ما ينفق هؤلاء المؤمنون كمثل من غرس جَنَّة برَبوة عالية، تستقبل أشعة الشمس صافية مطلقة، وتتنفّس أرواح النسيم عليلاً، وتمتصُّ أنداء الليل نقية معطرة، وهذا ما يجعل ثمرها مباركاً، و عطاءها جَزِلاً مضاعفاً، بما اجتمع لها من طيب المكان، والماء الرَّوِيّ، والسلامة من الآفات، وإن هذه الجنة التي قامت فوق الرَّبَوات العالية، لا تنقطع عنها أمداد السماء، فإن لم يُسقِها المطر الغزير فى بعض الأوقات، سقتها أنداء الطَّلِّ التي لا تنقطع أبداً فى تلك المواطن.
وكذلك عطاء المعطي في الله، وإحسان المحسن المؤمن، ينمو ويزدهر مثل تلك الجنة، فإنَّ فضل الله دائماً متصل بهذا الإحسان، يغذِّيه ويُنْمِيه لصاحبه، حتى يجده شيئاً عظيماً يسرُّ العين، ويشرح الصدر، هكذا يُربي الله للمؤمن عطاءه وإحسانه وصدقاته إذا تقرّب بذلك إليه وحده، وغرسه بعيداً عن متناول الآفات التي تأكله وتأتي عليه، وهي المّنُّ و الأذى.
ويقول تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿البقرة: 261﴾. هذه الآية من أوضح وأعمق الآيات دلالة على المعادلة التي بين أيدينا، "مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّويلَةِ" فالذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله، وسبيل الله هو كل وجه من وجوه الخير للإنسان، هؤلاء يجنون ثمرة هذا العطاء والانفاق أضعافاً مضاعفة، كما يزرع الزارع حبَّة فى أرض طيّبة فتنبت سبع سنابل، تحمل كل سنبلة مئة حبة، هكذا الحبة تعطي سبع مئة حبة، والله يضاعف رزقه وعطاءه للمعطي، والله واسع عليم لا حد لفضله، ولا نفاد لرزقه، يضع ذلك حيث شاء علمه، الذي يحيط بكل شىء و يعلم كل شىء.
ما سبق تؤكده التجربة الإيمانية بل التجربة الإنسانية، فما نقص مالٌ من عطاء، ولا نقص مال من صدقة، وما يخسر المعطي والمتصدق، بل يرجع ماله إليه، بل إنه ليزيد وينمو، فعندما يعطي الغني من ماله إلى الفقراء يتّسِع الفقراء وتصبح لديهم قدرة على الشراء، فيرجع المال إلى الثري، بواسطة هذه الدورة المالية.
لذلك فإن من شروط الثراء الانفاق والعطاء، أما البُخل وكنز المال فإذا كان يحفظه لكنه لا يُنميه، ولهذا من الضروري أن يلتزم المَرءُ بالتصدُّق يومياً ولو بالقليل، والأفضل أن ينفق ذلك في صدقات جارية تدوم الإفادة منها، والالتزام بالفرائض المالية الواجبة من زكاة وخمس، ودعم المشاريع الخيرية التي تفيد الناس، ورفد ذلك بالعطاء المعنوي الذي يتمثل بالكلمة الطيبة، والعلم النافع، والاهتمام بالآخرين، ومساندتهم نفسياً ومعنوياً.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: