ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَلَذَّذَ بِمَعاصِي اللّهِ أكْسَبَتْهُ ذُلًّا".
ويُخطئ كثيراً من يخال أن المعاصي والذنوب لا تخلِّف آثاراً خطيرة على المذنب العاصي مادياً ومعنوياً، فإن آثارها أكثر من أن تُحصى، حتى ليمكننا الجزم بأن النسبة الأعظم مما يحدث لنا من خسارات، وانتكاسات، ومشاكل، ناتج كله عن المعاصي والذنوب، فما سُمِّي الذنب ذنباً إلا لأنه يجرُّ آثاره المادية والنفسية والفردية والاجتماعية خلفه، كما يجرُّ الحيوان ذَنَبَه خلفه، فما نهى الله عنها إلا درئا لتلك المفاسد والأضرار والآثار، وما أمر بأمر إلا جلباً للمصالح والإيجابي من الآثار.
والمعادلة التي بين أيدينا: "مَنْ تَلَذَّذَ بِمَعاصِي اللّهِ أكْسَبَتْهُ ذُلًّا" تنبِّه إلى واحد من آثار المعصية، فتربط بينها وبين الذل الذي يلحق بالعاصي، والعصيان تارة يكون عن تمرُّد على أوامر الله ونواهيه وعن إرادة سابقة، وتارة أخرى قد يكون عن جهل، أو استعجال، أو استسلام للضغوط المتأتية من حمأة الغرائز والشهوات، فكل ذلك عصيان بلا جدال، ولكن ما يكون عن تمرُّد وتَعَمُّد أعظم أثراً بلا شك، ولعله هو المقصود بالتلذُّذ بالمعصية، يشهد لذلك أن بعض الناس يسارعون إلى الندم بعد صدور المعصية منهم، ولربما يطول ندمهم، ويسارعون إلى التوبة وإصلاح ما فات، ويتوسلون إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ليغفر لهم ويتجاوز عنهم، يقابلهم بعض آخر يعصون الله عن تمرُّد وجرأة وسابق تفكير، لا يؤنِّبهم ضمير، ولا يندمون، بل يرجعون إلى المعصية مرة تلو مرة، وهم يشعرون بالمتعة والسرور بممارسة المعصية، ويتبجّحون بارتكابها، ويحسبون أنهم يفعلون ما يعجز الآخرون عنه، فتأخذهم العِزَّة بالإثم، فتكون لذّتهم بالمعصية، أكثر من لذّتهم الحسية، فلا يقبلون بعد ذلك نُصح الناصح، ولا وعظ الواعظ، بل يعتزون بمعصيتهم، ويفتخرون بإثمهم.
وقد نبَّهنا الله تعالى إلى هذه الحالة البئيسة فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿البقرة: 206﴾ أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نُهِيَ عن منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر، وأخذته الأَنَفَة وطيش السَّفَه، إذ يُخَيَّل إليه أن النصح والإرشاد ذِلَّة تنافي العزة التي تليق بأمثاله، وهذا يكشف عن إمعانه في المعصية واكتساب الاثام، إنه ليشعر أنه عزيز منيع بسبب ما يرتكبه منها، فهو يرى ان هذا المقام الذي ركبه يجعله أعلى الناس رأياً، وأرجحهم عقلاً، بل يرى نفسه فوق الحق، كما انه فوق أهله في السلطة، فيعظُم عليه أن يُؤخَذَ عليه خطأٌ، وأن يُوَجَّه إلى صواب، فكيف يجوز لأحد أن يقول له: اتق الله.
وهذا نموذج قائم ومشهود، نموذج من الناس ماثل أمامنا الآن وفي كل آن، يعتزُّ بإثمه، ويختال بمعصيته، ويخاصم عن نفسه مدعياً أنه يعرف كيف يعيش، ويعرف كيف يُسعِد نفسه، فيتعاظم في نفسه، ويجعل سلوكه هو المعيار الذي يقيس مكانة الناس، وكرامة الناس، وقِيَم الناس عليه، فيتعالى عليهم، يراهم لا يشبهونه، ويصمهم بالتخلُّف والجهل والغباء.
إن معاصي هذا النموذج من الناس تخِّلف الكثير الآثار السيئة في الدنيا قبل الآخرة، والذل واحد من تلكم الآثار، الذل في الدنيا، والذل في الآخرة، الذل بين يدي النفس، لأن العاصي لا بد وأن يعي يوماً من الأيام عظيم ما كان منه، فتلومه نفسه، ويحاكمه ضميره، ويدوم ندمه، ويصل به الحال إلى تفضيل أن يفقد ذاكرته على أن يبقى متذكراً ما كان منه، وهذا من أقسى أنواع العذاب، ناهيك عن ذُلِّه بين يدي الناس، فمن يعرفه الناس بالمعصية وارتكاب الفواحش، يصير في نظرهم مرادفاً لها، فينفرون منه كما ينفرون منها، هذا في الدنيا، فما بالك في الآخرة، يوم هم بارزون لا تخفى منهم خافية، يوم يجد المرء ما قدمت يداه، ويقول: يا ليتني كُنتُ تراباً.
فهو ذليل أمام نفسه، يعلم أنه يعصي، ويستمتع بذلك، فيعيش في صراع داخلي بين نفسه اللوّامة وبين انقياده لطغيان شهواته، هذا الصراع يترك أثراً نفسياً مؤلماً يشعر معه بالضعف أمام رغباته، وهو نوع من الذلّ الذاتي.
وذليل أمام الله تعالى لأنه يستخِفُّ بعظمة الله وسلطانه، فيخسر كرامته بين يديه تعالى، وهذا من أقسى حالات الذُّلّ.
وذليل أمام الناس لأنه يخسر احترامهم له، حتى أولئك الذين يشاركونه المعصية قد لا يثقون به أو يقدرونه.
وذليل أمام شهواته، لأنه يصبح عبدا لها، لا يستطيع أن يتحرّر منها بسهولة، وهذا الخضوع للشهوة هو نوع من الذلّ، لأن الكرامة تكون في السيطرة على النفس، لا العكس.
فالإمام أمير المؤمنين (ع) لا يتحدث عن المعصية المجرَّدة فحسب، بل عن التلذّذ بها، مِمّا يدل على أن الخطر الأكبر يكمن حينما يُغلِّف الإنسان المعصية بالمتعة، ويستأنس بها، ويجعلها جزءاً من حياته، وبهذا تتحوّل من سقطة عابرة إلى سلوك يُذلّ به نفسه شيئاً فشيئاً.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي