
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ عَمِيَ عَنْ زَلَّتِهِ اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ غَيرِهِ".
معادلة تربط بين عمى الشخص عن زلّاته وبين استعظام زلَّات غيره، ومن المؤكّد أن الذي يفعل ذلك سيرى زلات غيره عظيمة، سيرى حبَّتهم قُبَّة، لأنه يرى أنه من الصالحين الأسوياء الذين ليس في أفعالهم خطأ، وليس في صفاتهم سوء، فيستعظم ما يكون من غيره. ولو أنه أخضع نفسه للمراقبة والنقد والمحاسبة لوجد فيها الكثير مما يُستَعظَم، والكثير مما يجب علاجه.
هذه المعادلة تُعالِج سلوكاً إنسانياً شائعاً للأسف، لا يخلو منه إلا المعصومون أو من امتلأت قلوبهم بالتقوى، هذا السلوك الغبي والخطير في آنٍ هو الانشغال بأخطاء الآخرين مع التغافل عن أخطاء النفس.
بالطبع فإن المقصود بالزَّلة التي لا يخلو منها أحد إلا ما سبقت الإشارة إليهم، هي الخطيئة أو السقطة، اللتين يقع فيهما الإنسان من فعل غير مشروع سواء وقع فيه عن عمد أو عن سهو، ويتحمَّل بسبب ذلك مسؤولية تدارك زلّته بالتوبة الفورية الواجبة قبل أن تتحوَّل إلى عادة يعتادها، فيصعب عليه الإقلاع عنها.
وإنما يعمى الإنسان عن زلاته بسبب غفلته عن نفسه، أو الرضا عنها، أو الجهل بها، وعدم محاسبتها، أو الأنانية، أو اتباع الهوى، أو الغرور، أو الاعتياد على الخطأ والذنب والمعصية، فجميع ذلك يؤدي إلى عمى القلب، وفقدان البصيرة، وعدم رؤية العيوب النفسية، والأخطاء العملية، وعدم الاعتراف بها، وقد حذَّر الله تعالى في كتابه الكريم من هذا النوع من العمى، فقال: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿103﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴿الكهف: 104﴾
إن الآية الكريمة تنبّه إلى خطورة غفلة الإنسان عن نفسه، وعدم محاسبتها والتدقيق فيما يصدر عنها، تصوغ ذلك بطريقة الاستفهام الخبري لإثارة الانتباه إلى ما وراء هذا الاستفهام من جواب عليه، والآية والتي بعدها تقرران حكماً مهماً جداً وهو: أن أخسر الناس أعمالاً، وأبخسهم حظاً بما عملوا هم أولئك الذين يركبون الطريق الأعوج، طريق الخطأ والضلال والانحراف، وهي في حسابهم وتقديرهم أنها طريق صواب وخير وفلاح، فمثل هؤلاء لا يُرجى لفسادهم صلاح أبداً، إذ لا تكون منهم لفتة إلى أنفسهم، ولا نظر إلى ما هم فيه من سوء، حيث يرون أنهم على أحسن حال، وأقوم سبيل.
ولذلك أكَّدت الروايات الشريفة على ضرورة محاسبة النفس دائماً ليتسنّى للمرء أن يطلع على سلبياتها فيبادر إلى علاجها وتقويمها وإعادتها إلى طريق الصواب، فقد دعانا رسول الله (ص) إلى محاسبة أنفسنا على الصغيرة والكبيرة، واعتبر ذلك من الكَياسة والذكاء، فقال: "أكْيَسُ الكَيِّسِينَ مَن حاسَبَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لِما بَعدَ المَوتِ، وأحْمَقُ الحَمْقى مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهُ، وتَمنّى على اللَّهِ الأمانِيَّ".
ويدعونا الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى الإنشغال بمحاسبة أنفسنا، وعدم الانشغال بعيوب الآخرين ومحاسبتهم عليها، لوجوب أن يحاسبوا هم أنفسهم أيضاً، فإن لم يحاسبوها حاسبهم الله يوم الحساب، قال (ع): "حاسِبْ نَفْسَكَ لنَفْسِكَ ؛ فإنَّ غَيرَها مِن الأنْفُسِ لَها حَسيبٌ غَيرُكَ".
ثم إن الذي يدفعنا إلى الانشغال بزلات الآخرين وأخطائهم واستعظامها منهم أمور:
منها: الشعور بالأنا، والعظمة، والتكبُّر، وذلك لا يدعونا إلى تجاهل زلاتنا وحسب، بل يدعونا أيضا إلى الانشغال بزلات الآخرين والتركيز الدائم عليها، بدل أن ننشغل بعيوبنا وأخطائنا، فنكون في الواقع مصداقاً لقوله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿الحشر: 19﴾، ونكون أيضاً مصداقاً صادقاً لقول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ...﴿البقرة: 44﴾.
ومنها: التنافس الاجتماعي الذي يحمل البعض منّا -تأكيداً لتفوقهم الاجتماعي والأخلاقي- على تتبع زلات الآخرين واستعظامها وتوجيه النقد إليهم.
ومنها: التبرير لأخطائنا، السبب الذي يدعونا إلى تعظيم أخطاء الآخرين لنبرر للناس أننا وأولئك سواء.
ومما لا شكَّ فيه أن الغفلة عن زلّاتنا أو استصغارها، وتتبع زّلات الآخرين واستعظامها، يفسد العلاقات الاجتماعية، ويجعل العلاقات بين الأفراد قائمة على التوجُّس والخوف من بعضهم البعض، فيبث روح الكراهية والبغضاء فيما بينهم، كما يمنع الشخص من التوبة والإصلاح لأنه لا يرى حاجة إلى ذلك.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي