"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد المصطفى الامين وعلى اله الطيبين الطاهرين المعصومين.
سوف نتحدث عن هذا الموضوع المهم والحيوي من خلال بيان عدة مطالب:
المطلب الاول: الإطار النظري
1. تعريف العلاقات الدولية في الفكر السياسي الإسلامي
العلاقات الدولية في الفكر الإسلامي لا تنحصر في المصالح المادية فقط، بل تمتزج فيها الأبعاد الدينية، الأخلاقية، والإنسانية.
يُنظر إلى العالم باعتباره مجالًا للبلاغ والدعوة، و"الآخر" ليس دائمًا خصمًا، بل قد يكون شريكًا في الإنسانية، أو معاهدًا، أو محاربًا يُعامل وفق ضوابط أخلاقية.
تُبنى العلاقات الدولية في الإسلام على قواعد مثل: الوفاء بالعهد، احترام الإنسان، النهي عن العدوان، الدعوة إلى السلام إن أمكن، وحرمة الغدر والخيانة.
2. الأسس العامة للعلاقات الدولية في القرآن الكريم والسنة النبوية
القرآن الكريم يقرر مبدأ "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256) كأساس للتعامل مع الشعوب الأخرى. النبي( ص) أبرم عهودًا (كصلح الحديبية، ومعاهدات مع اليهود والمسيحيين) تدل على إمكانية التعايش السلمي مع الآخر.
الآيات التي تأمر بالقتال مرتبطة بصدّ العدوان أو الدفاع، لا التوسّع الإمبريالي. السنة النبوية غنية بمواقف تبرز أخلاقية العلاقات: الإحسان للأسرى، الوفاء بالعهود، احترام كرامة الإنسان.
المطلب الثاني: المبادئ الأخلاقية والسياسية في نهج البلاغة
1. العدالة كأصل حاكم في العلاقات السياسية
الإمام علي (ع) اعتبر العدل أساس الملك، فقال: «العدل يضع الأمور مواضعها». العدالة لم تكن داخلية فقط، بل امتدت إلى طريقة التعامل مع المعاهدين والخصوم الخارجيين.
العدالة تشمل: العدالة في الحرب، في عقد المعاهدات، في توزيع الموارد المشتركة، وفي احترام الكرامة الإنسانية.
2. التعامل مع العدو: بين الحرب والدعوة والسلم
الإمام علي (ع) لم يكن يميل للحرب، بل يراها خيارًا اضطراريًا بعد استنفاد وسائل السلم. نجده دعا إلى البدء بالدعوة، ثم الإنذار، ثم القتال عند اللزوم، وهذه طريقة تراعي حقوق الخصم وإنسانيته.
3. احترام العهود والمواثيق
كان الإمام(ع) يرى أن العهود بمنزلة الأمانة والميثاق الإلهي، فقال: "و إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ و أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ". الوفاء بالعهد مبدأ حاكم سواء مع المسلمين أو غيرهم، وهذا يتعارض مع الفكرة الواقعية التي تبرر نقض المعاهدات إذا اقتضت المصلحة.
4. موقف الإمام(ع) من الشعوب غير المسلمة والخصوم السياسيين
نهج الإمام(ع) يقرّ بحق غير المسلمين في الحماية، وحرية العبادة، والعدل القضائي والمالي. قال عن أهل الذمة: «وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ... فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً». في تعامله مع الخصوم، دعا إلى الإنصاف والعدل، حتى مع من ناصبوه العداء كمعاوية.
المطلب الثالث: التطبيق العملي في سياسة الإمام علي(عليه السلام)
1. رسائله إلى ولاته (كمالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر)
رسالته إلى مالك الأشتر هي دستور سياسي متكامل، وقد احتوت على قواعد للعلاقات مع الشعوب، كقوله: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». شدّد فيها على أهمية التعامل بالحسنى، والعدل، ورفض التمييز بين الفئات، أمر ولاته بالحوار مع المعارضين قبل القتال، وإعطاء الفرصة للمراجعة.
2. تعامله مع الخوارج، معاوية، وأهل الذمة
لم يبدأ الخوارج بالقتال رغم تطرفهم، حتى قالوا: لا حكم إلا لله، فلم يُقاتلهم إلا بعد أن قاتلوه.
أرسل كتباً عديدة إلى معاوية تدعوه للحوار لا الحرب.
حفظ حقوق أهل الذمة وأمّن لهم الحماية الكاملة، حتى في زمن الفوضى.
3. إدارة الصراع في ظل الانقسام الداخلي
حرص الإمام على(ع) عدم اللجوء للعنف إلا كخيار نهائي، وتعامل بحكمة في قضايا الفتنة. كان يرى أن الوحدة لا تعني الاستسلام للظلم، بل يجب أن تُبنى على الحق والعدل.
المطلب الرابع: مقارنة مع النظريات الحديثة
1. مقاربة فكر الإمام علي(ع) بالنظرية الواقعية
النظرية الواقعية تُؤسس للعلاقات على أساس القوة والمصلحة والنفعية.
فكر الإمام علي(ع) يختلف عنها لأنه يُخضع السياسة للأخلاق والحق، مع عدم نفي الاعتبارات الواقعية، ولكنه لا يجعلها مبررًا لظلم أو غدر.
2. مقاربته بالنظرية الليبرالية والبنائية
تتفق الليبرالية مع فكر الإمام(ع) في التركيز على التعاون، القانون، والمواثيق الدولية.
النظرية
البنائية تركز على القيم والهويات، وهو ما يتطابق مع نظرية الإمام(ع) التي تجعل القيم والمبادئ أساسًا للعلاقات السياسية.
3. خصوصية المنهج الأخلاقي الإسلامي في العلاقات الدولية
يتميز المنهج الإسلامي – كما يظهر في سيرة الإمام علي(ع) – بمزج السياسة بالأخلاق. لا تُبنى العلاقات على الهيمنة، بل على العدالة والكرامة الإنسانية. هذا يجعل فكر الإمام(ع) نموذجًا يُقدّم رؤية حضارية بديلة عن النظريات المادية البحتة.
الخلاصة:
العلاقات الدولية في فكر الإمام علي(عليه السلام) ليست ظرفية ولا عشوائية، بل تستند إلى قواعد أخلاقية، وفقه سياسي متكامل، وتُظهر تجربة الإمام(ع) أن من الممكن بناء نظام دولي عادل قائم على الحق والكرامة والاحترام المتبادل. يمكن استلهام هذه المبادئ في عصرنا لبناء سياسات خارجية إسلامية معاصرة، تخدم السلم العالمي وتحمي الإنسان.
المطلب الخامس : العلاقات الدولية في الإسلام: مفاهيم وأمثلة
العلاقات الدولية في الإسلام لا تقتصر على إطار السياسة فقط، بل تشمل العلاقات بين الدول والشعوب من حيث احترام الحقوق، والعدالة، والوفاء بالعهود، والسعي للسلام. وفي هذا السياق، يمكن استعراض بعض المبادئ المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تؤكد على الأخلاقيات العالية في العلاقات الدولية.
1. مبدأ العدل في العلاقات الدولية
العدل هو المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقات بين الدول في الفكر الإسلامي. في القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات التي تشدد على أهمية العدل في التعامل بين الناس والدول. من أبرز هذه الآيات قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَإِحْسَانِ وَإِتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90).
هذا الأمر الإلهي بالعدل يُعد أساسًا لجميع التعاملات بين الأمم والشعوب. في العلاقات الدولية، يكون العدل هو القاعدة التي تُبنى عليها السياسات، سواء كانت سياسة الدفاع، أو المعاهدات، أو التعامل مع الأقليات في الدول.
2. الوفاء بالعهود والمواثيق
الوفاء بالعهد من القيم الرئيسية في الإسلام التي تحدد العلاقات بين الدول. في القرآن الكريم، نجد قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾ (الإسراء: 34).
الوفاء بالعهود لا يقتصر فقط على المعاهدات الدينية أو السياسية بل يشمل أي اتفاق يتم بين طرفين، سواء كانا مسلمين أو غير مسلمين، ومن أبرز الأمثلة على الوفاء بالعهد في السيرة النبوية، كانت معاهدة "الحديبية" التي أبرمها النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) مع قريش في السنة السادسة من الهجرة. على الرغم من أن المعاهدة كانت لصالح قريش في بعض بنودها، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التزم بكل بنود المعاهدة، مما أسهم في تعزيز سمعة الإسلام.
3. الدعوة إلى السلم وحل النزاعات بالطرق السلمية
الإسلام يعلي من قيمة السلام ويدعو لحل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية. ففي القرآن الكريم، نجد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال: 61).
يُفهم من هذه الآية الكريمة أن السعي نحو السلام يجب أن يكون أولوية في العلاقات الدولية، وأن الإسلام لا يفضل الحرب إلا كخيار أخير بعد فشل جميع الوسائل السلمية.
في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نرى العديد من الأمثلة التي تبرز دعوته للسلام وحل النزاعات بالطرق السلمية. من أبرز هذه الأمثلة معاهدة "الصلح" بين المسلمين وقريش، والتي كانت تسهم في تحقيق السلام بعد سنوات من الصراع. كما يظهر في سياسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما أرسل رسله إلى الملوك والأمراء في مناطق مختلفة يدعوهم للإسلام، متبعًا منهج الحوار والتفاهم.
4. عدم الاعتداء على الآخرين
تُحرّم العلاقات الدولية في الإسلام الاعتداء على الآخرين أو الإضرار بالغير. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190).
وتُظهر هذه الآية أن العدوان على الآخرين في الإسلام مرفوض بشكل قاطع، ويجب أن تُبنى العلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل وعدم التعدي على الحقوق.
في التاريخ النبوي، نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحث على عدم الاعتداء حتى في ظروف الحرب، فقد كانت الحرب تُعتبر ضرورة دفاعية فقط، وكان يُمنع المسلمون من الاعتداء على النساء أو الأطفال أو كبار السن، وكان يُحظر تدمير الممتلكات المدنية.
5. الاحترام المتبادل وحسن معاملة الأقليات
الإسلام يعترف بحقوق جميع الناس بغض النظر عن ديانتهم أو عرقهم. وقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى هذا المبدأ في قوله الشهير: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". ويظهر هذا المبدأ في التعامل مع أهل الذمة في الدولة الإسلامية، حيث كان لهم حقوق كاملة في المجتمع الإسلامي، كما كانوا يتمتعون بالحماية من العدوان والحفاظ على ممتلكاتهم. فقد ورد في عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر:"واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم".
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري