ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ اللّهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ فِيهَا بِمَا أَوْجَبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فَقَدْ عَرَضَهَا لِلْدَّوَامِ، وَإِنْ مَنَعَ مَا أَوْجَبَ اللّهُ فِيهَا فَقَدْ عَرَضَهَا لِلزَّوَالِ".
معادلة يقررها الواقع المعاش، والسبب في ذلك أن للناس حاجات كثيرة، منها ما يقدرون على تحصيلها بأنفسهم، ومنها ما يعجزون عن تحصيلها بأنفسهم، لقلة إمكانياتهم، أو خبراتهم، أو لمعاكسة الظروف لهم، أو لموانع أخرى، فيلجؤون إلى ذي النعمة أو القدرة أو السلطة لتحصيلها، فالفقير لا يلجأ إلى فقير مثله يطلب منه المال، والعاجز لا يلجأ إلى عاجز مثله يطلب منه العون، والجاهل يلجأ إلى العالم ليعلمه، والمريض يلجأ إلى الطبيب ليعالجه، وقد ترى غنياً ثرياً يلجأ إلى ذي السلطة يستعين به على استثمار ماله، أو حل مشكلة قانونية، أو ما شابه ذلك.
إقرأ أيضاً:
إن صاحب النعمة أياً تكن تلك النعمة، نعمة عقل، أو نعمة علم، أو نعمة مال، أو نعمة خبرة، أو نعمة قدرة، أو نعمة سلطة، كل ذلك يفرض عليه مسؤوليات اجتماعية تجاه الآخرين، ولا يجوز له بحال من الأحوال أن يمسك يده عن مدها لإعانة الناس فيما يحتاجون إليه، وفيما يقدر عليه، والسبب في ذلك أمور:
أولا: كما يحتاج الناس إليه لنعمة عنده فإنه يحتاج إليهم لنعمة عندهم يفتقر إليها، فما من أحد يمكنه أن يستغني عن الآخرين ولو بلغ ما بلغ من الثراء أو السلطة، أليس يحتاج إلى الطبيب ليعالجه، والخباز ليصنع له خبزه، والمزارع ليزرع له ما يأكله، والخياط ليخيط له ثوبه، والحارس ليحرسه، وهكذا، فإنك لا تجد أحداً لا يحتاج إلى سواه، فإن هو أمسك يده عن إعانتهم أمسكوا أيديهم عن إعانته حين يحتاج إليهم، ومعلوم أن المجتمع يقوم على علاقة تعاونية تخادمية، وهي ضرورية للمجموع كما للأفراد، فإذا انعدمت أحدثت خللاً عظيماً في المجتمع وقد تؤدي إلى دماره.
ثانياً: إن الذي يمسك يده عن قضاء حوائج الآخرين رغم حاجتهم إليه يعكس أنانيته، والأنانية مرض نفسي وأخلاقي عُضال، يؤدي إلى الإصابة بأمراض أخلاقية ونفسية لا تقل عنه خطورة، وعلى الرغم من أن لكل إنسان مصالحه الخاصة، إلا أنَّ الأنانية تؤدي إلى العديد من المخاطر على المستوى الشخصي والاجتماعي، من أهمها البُخل، والشُّحّ، والقَسوة، والإجهاد النفسي، والقلق، والغِلظة في الطبع، وضعف الضمير، والجفاف العاطفي، والعزلة الاجتماعية، وفقدان الثقة، وانتشار النزاعات وسوء التفاهم بين الناس، وضعف الروح الجماعية، وزيادة الظلم والاستغلال، وغياب الرحمة والتكافل.
ثالثاً: إن النِّعَم نِعَم الله، والمال مال الله، والإنسان مستخلَف عليهما، فهما أمانة في يده وعليه أن يرعى تلك الأمانة، ويتصرَّف بها وفق ما يريده الله المُنعِم المُتفضِّل، والله يأمره بالإنفاق مِمّا استخلفه عليه ومكَّنه منه، ينتفع بماله وينفع به سواه من الناس، فهو طريق إلى سواه، يرزقهم الله من طريقه، فإن قام بما أوجبه الله عليه كان جديراً بالنعمة، جديراً بالمال، فيقرُّهما الله في يديه، ويزيده من فضله، وإن منع الناس حقوقهم التي يجريها الله على يديه لم يكن جديراً بالنعمة، فيسلبه الله إيّاها ليقرّها في يدي غيره ممن يؤدي حقها، ويقوم بشكرها العملي.
إن الفضل والعطاء طريق لاستمرار النعمة وزيادتها، فما نقص مال من عطاء وصدقة، وإن المنع والشُّحَّ والبخل سبب لمنعها عن الشحيح البخيل. قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴿إبراهيم: 7﴾ إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية، فالخير يُشكَر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة، وأن النفس التي تشكر الله على نعمته، تراقبه في التصرف بهذه النعمة، بلا بطر، وبلا استعلاء على الناس، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والظلم والفساد، وهذا يزكّي النفس، ويدفعها للعمل الصالح، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها، ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عوناً، ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان، والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها، أو بإنكار أن الله واهبها، ونسبتها إلى العلم والخبرة و الكد الشخصي والسعي كما ادعى قارون! كأن العلم والخبرة والكدَّ والسَّعي ليسوا نعمة من نعم الله!
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي