ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِ سِرِّه كانَ عَنْ سِرِّ غَيْرِه أَضْعَفُ".
من أفشى سرَّه إليك فإياك أن تأمنه على سِرٍّ، ومن أفشى إليك سِراً من أسرار الناس، فكن منه على حذر، بل حذر شديد، فإنه لا يؤتَمَن على سِرّ، فسريعاً ما يبوح به، إما تبجُّحاً بما يعرف، وإما استرسالاً على ما اعتاد عليه، وإما خيانة، وجميع ذلك يجعل منه شخصاً يجب الحذر منه على كل حال.
إن الذي لا يكون أميناً على سِرِّه الشخصي، فبالأولى ألّا يكون أميناً على أسرار الآخرين، وإن الذي يعجز عن حفظ سِرِّه فهو أعجز عن حفظ أسرار الآخرين، وهذه حقيقة منطقية لا جدال فيها، من يعجز عن حماية نفسه مِمّا يضرُّه فهو أعجز عن حماية غيره مِمّا يضرُّه.
هذه هي المعادلة التي ينبهنا إليها الإمام أمير المؤمنين (ع)، وبها يرشدنا إلى ضرورة حفظ الأسرار من جهة، وإلى المعيار الذي على أساسه نأتمن الآخرين عليها.
أما وجوب حفظ السِّر: فذلك مِمّا يدعونا إليه العقل، لأن في كشفه ضرر على الشخص، ناهيك عن الضرر الذي يصيب الجماعة، وهنا يكون الضرر أعظم، والخطورة أكبر، والعواقب قاتلة، ومِمّا لا جدال فيه بين العقلاء أن دفع الضرر ولو كان محتملاً واجب عقلاً فكيف إذا كان الضرر حتمياً، والتجارب التي مررنا ونمرُّ بها تؤكد ذلك بشكل قاطع.
لذلك يدعونا الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى كتمان أسرارنا فيقول (ع): "مَن كَتَمَ سِرَّهُ كانَتِ الخِيَرَةُ بيَدِهِ". ومُراده أن السِرَّ ما دام خافياً عن الناس، مكتوماً عنهم، فإن موقف صاحب السِّرِّ يبقى قوياً، وتكون يده هي العليا، أما إذا اكتشف عدوّه سِرَّه فإن ذلك يُضعِف موقفه، ويجعله عُرضة لأن ينال العدو منه، وهذا ما يؤكِّده الإمام (ع) بقوله: "سِرُّكَ سُرُورُكَ إن كَتَمتَهُ، وإن أذَعتَهُ كانَ ثُبُورَكَ". ويقول: "سِرُّكَ مِن دَمِكَ فلا يَجرِيَنَّ مِن غَيرِ أوداجِكَ".
ويدعونا الإمام (ع) إلى الحذر من الآخرين، بل وحتى من نُكِنُّ لهم المودة في قلوبنا، فهؤلاء وإن كانوا من أودّائنا لا ينبغي أن نبسط لهم الكلام، ونفشي أسرارنا بين أيديهم، فإنا لا نعلم واقع حالهم، فلربما كانوا غير أمينين، ولربما كان يثقل عليهم حمل السِّرِّ، ولربما كانوا مخترَقين، ولربما صاروا بعد الصداقة أعداء، فيقول: "أُبْذُلْ لِصَدِيقِكَ كُلَّ المَوَدَّةِ، ولا تَبذُلْ لَهُ كُلَّ الطُّمَأنِينَةِ". ويقول: "اِنفَرِدْ بِسِرِّكَ ولا تُودِعْهُ حازِماً فَيَزِلَّ ولا جاهِلاً فَيَخُونَ".
وأما المعيار الذي على أساسه نأتمن الآخرين على أسرارنا فقد ذكره الإمام جعفر الصادق (ع) بقوله: "لا تُطلِعْ صَدِيقَكَ مِنْ سِرِّكَ إلّا على ما لَو أَطْلَعتَ علَيهِ عَدُوَّكَ لَم يَضُرَّكَ، فإنَّ الصَّديقَ قد يكونُ عَدوّاً يَوماً مّا" إن هذا الحديث الشريف ينبهنا إلى ضرورة الوعي في التعامل مع الأسرار، وضرورة إحاطتها بالكتمان حتى عن أقرب الناس إلينا، ففي هذا الأمر لا يجوز أن نمحض الثقة المطلقة لأي شخص، ومن لا شأن له بالسِّر لا ينبغي أن نُطلعه عليه، ومن له شأن فيه يجب أن نختبره أولاً، وعلى فترات متباعدة، حتى إذا اطمأننا إلى حفظه وأمانته وكتمانه أطلعناه على ما لو أطلعنا عليه العدو لم يضرنا.
وإن كان من توصيات أختم بها هذه المقالة فهي:
أولاً: أن نُدرِّب أنفسنا على حفظ السِّرِّ، ونعوِّدها على الصمت في المواطن التي لا ضرورة للكلام فيها، عملاً بقاعدة: من صمتَ نَجا.
ثانياً: أن نختبر أمانتنا، فإذا وجدنا أننا نضعف عن كتمان أسرارنا الشخصية فلا ينبغي لنا أن نطِّلع على أسرار الآخرين.
ثالثاً: أن نتذكر دائماً أن عاقبة إفشاء السِّرِّ وخيمة وقاتلة، وإذا أدّت إلى الإضرار بممتلكات الآخرين وإزهاق أرواحهم فسنكون شركاء في دمهم، وحسابنا في الآخرة سيكون عسيراً، ومكاننا النار خالدين فيها.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي