ایکنا

IQNA

الغدير: بلاغ السماء وخاتمة النبوة ومبتدأ الإمامة

13:40 - June 13, 2025
رمز الخبر: 3500530
النجف الأشرف ـ إکنا: في الساعات الأخيرة من شمس النبوة، وعلى أرضٍ تصهرها حرارة الظهيرة، اصطفّت القوافل العائدة من حجة الوداع، وظنّ الناس أن الوحي قد قال كل ما عنده… لكن السماء لم تكن قد نطقت بعد بكلمتها الأخيرة.

وكان في الغدير شيءٌ مختلف… شيءٌ يتّصل بجوهر الرسالة، ويُكمل مشروع السماء على الأرض.
 
هناك، عند مفترق الطريق في «غدير خم»، جاء البلاغ الإلهي:
 
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(المائدة: 67)
 
إنها آية تهزّ كيان من يقرأها، فليس فيها خيار أو تأجيل.


فما هذا الذي يُساوي الرسالة كلها؟

ما هذا الذي لو سكت عنه النبي(ص)، لكان كأن لم يُبعث أصلًا؟

كان الجواب في الكلمة التي رجّت أسماع التاريخ: «من كنت مولاه، فهذا علي مولاه»
 
الولاية التي تُكمل الدين:

وقف النبي(صلى الله عليه وآله) على منبر من أحداج الإبل، وخطب في الحجيج الذين زاد عددهم على مئة ألف. بدأ خطبته بما لا يُختلف عليه: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: بلى يا رسول الله. ثم جاء الإعصار النبوي: «فمن كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله…».

بهذه الكلمات، أعلن النبي(ص) نهايةَ نبوته، وبدايةَ عهد الإمامة. لم يكن مجرد توصية، بل بلاغ إلهيّ، ووحيٌ منزل، وامتداد للرسالة.

وهنا اكتملت الدائرة، وأشرقت آية التتويج: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة: 3).

لم تنزل هذه الآية في بدر أو أحد أو حتى في فتح مكة، بل نزلت في الغدير، بعد إعلان ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام. وذلك دليل بيّن أن إكمال الدين لا يتحقق إلا بوجود من يحفظه بعد النبي، ويقوم مقامه في البيان والهداية.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام:«نزلت في ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام»(تفسير العياشي، ج1، ص 227)
 
الولاية: بين التنصيب الإلهي والبيعة الجماهيرية:
 
ربما يسأل سائل: إذا كانت ولاية الإمام علي عليه السلام منصبًا إلهيًا، فلماذا طلب النبي من الناس أن يبايعوه في الغدير؟ ألم يكن يكفي النص الإلهي؟
 
والجواب: أن الولاية إمضاء من الله، لكن البيعة إعلان من الناس.

إنها ليست تأسيسًا، بل اعترافٌ بالمقام، وتسجيلٌ للحقيقة، وشهادةٌ جماهيرية على أمر الله. كما بايع الناس النبي مع أن نبوّته منصب من الله، فكذلك بايعوا عليًا، لأن ولايته أمرٌ من الله.

النبي لم يأخذ البيعة سرًّا، بل أمر الناس: «سلّموا على علي بإمرة المؤمنين»، فجاء عمر بن الخطاب قائلًا: «بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».
 
فلا يُقال يومًا: لم نكن نعلم، أو لم نرَ النبي ينصّ عليه، أو لم يكن الأمر ظاهرًا. بل كانت البيعة ختمًا علنيًا على وثيقة السماء.
 
طبيعة الولاية في الغدير: إمامة شاملة لا محدودة:
 
حديث الغدير لا يُشير إلى مجرد خلافة سياسية أو منزلة روحية، بل إلى ولاية مطلقة تشمل الدين والدنيا، كما قال النبي: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»

فكما أن النبي(ص) له:

 • ولاية التشريع (يُحرّم ويُحلّل)،
 • وولاية الحكم (يقود الجيوش، يُبرم الصلح)،
 • والولاية الروحية (يزكي ويعلّم ويهدي)،
 
كذلك لعلي عليه السلام تلك الولاية بعده، لا لأنه نبي، بل لأنه إمام معصوم منصوص عليه من الله.

هذه الولاية هي التي تحفظ الشريعة بعد رحيل النبي، وهي التي تُفسّر القرآن على هدى، وهي التي تقود الأمة بالحق.
 
الغدير: فصل الخطاب وبداية الامتحان:
 
كان الغدير امتحانًا للأمة أكثر من كونه تكريمًا للإمام. كان خط نهاية النبوة وخط بدء الإمامة، وكان البيان فيه أوضح من كل بيان. لكن ما إن غاب رسول الله(ص) عن الدنيا، حتى غابت الغدير عن السقيفة، وعاد الصراع الإنساني يطغى على البيان الإلهي.
 
أُقصي الإمام، وتُرك النص الإلهي جانبًا، وبدأت رحلة الغربة للإمامة المنصوصة.

ومع ذلك، بقي الغدير وثيقة خالدة في الوجدان النبوي والإلهي، لا تموت بموات الناس، بل تُجدَّد في كل عصر، ويُعاد فيها النداء: «من كنت مولاه، فهذا علي مولاه» .
 
الختام: الغدير أمانة الرسالة:
 
الغدير لم يكن لحظة عابرة، بل خاتمة الوحي، وخلاصة الرسالة.
وكان النبي(ص) يقول للعالم: "قد بلّغت، فاشهدوا"، والله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم".
 
والأمة تقف على مفترق الطريق:
 
 • فإما أن تسير خلف من جعله الله مولاها،
 • وإما أن تختار سبيلها، وتتحمل نتائج التفريط.
 
فما كان من الله قد تم، وما كان على الناس فهم السائلون عنه يوم الدين.
 
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري 
captcha